في الحديث عن صراع اليمنيين مع الكهنوت الإمامي، عادة ما يطرح سؤال يتعلق بحقيقة استمرار هذا الوباء كارثةً مستمرةً وخنجراً في خاصرة اليمنيين لأكثر من ألف عام، والعوامل التي استمد منها هذا الفكر العنصري بقاءه، رغم ما يثبته التاريخ من مقاومة يمنية مستمرة له، وخفوته بل تلاشيه في مفاصل تاريخية مختلفة، لكنه ما يلبث أن ينفجر من تحت الرماد ليكرر جرائمه ضد اليمنيين وتاريخهم وهويتهم وبلادهم.
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم طبيعة هذا الفكر من حيث إنه ولد مشروعاً، واستمر كمشروع يحتفظ ببذور عودته من جديد، وهو وإن توارى فترة نتيجة مقاومة اليمنيين، إلا أنه ما يلبث أن يعود بعد سنوات أو عشرات أو مئات السنين كما حدث بعد انهيار الدولة الرسولية التي استمرت أكثر من 220 عاماً.
الحقيقة التاريخية لاستمرار هذا المشروع ألف وثلاثمائة عام، لا تعني بحال أنه استمر حاكماً طوال هذه المدة، بل تعني أن هذا المشروع الممتد من المجرم الرسي إلى الحفيد الحوثي، تغلب على عوامل الاندثار حتى وهو بعيد عن الحكم، فلم تمر فترة تاريخية إلا وكان الإمام إما حاكماً ظاهراً أو مستتراً، حتى لو ظهر كإمام لقرية أو عدة قرى، في ظل وجود دولة يمنية قائمة.
والحقيقة أن ما ساعد هذا المشروع على الاستمرار يتعلق بمسألتين مهمتين: الأولى، تسامح اليمنيين تجاه جرائم السلالة، وتغافلهم على استكمال معركتهم معه، وهو ما سهل للسلالة بمشروعها أن تشتغل دوما على العودة، مستفيدة من المساحات التي توفرها تلك الغفلة والتسامح، فتعمل السلالة على التغلغل المدروس في جسم النظام القائم، ثم تتحين الفرصة للانقضاض عليه والعودة إلى الحكم.
ثم إن هذا المشروع قادر على المواءمة مع الأوضاع المختلفة، فيظهر مجرماً مستبداً مستقوياً إذا حكم، ممارساً للتقية والتكيف مع الوضع الراهن إذا ما غاب أو غيب عن المشهد، وهو أمر تكرر كثيراً في تاريخ اليمنيين، لتشكل عودة الإمامة ومشروعها على يد الحوثي الأب والابن مثالاً واضحاً لمشهد أصبح عبثياً ومتكرراً.
إن ما قام به الإماميون الجدد منذ هزيمتهم الأخيرة على يد اليمنيين في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، هو نسخة طبق الأصل عن سيناريو أتقنوه على مدى الألفية الماضية، يبدأ من الاستكانة والهجوع، ثم يمتد إلى التغلغل في نظام الحكم القائم، وهدمه من الداخل، وممارسة الفساد والإفساد وتحميل النظام مسؤوليته، والسعي لإضعافه، ثم الانقضاض عليه.
والملاحظ أيضاً أنه تترافق مع تلك الآلية المتكررة تمهيدات عمل عليها السلاليون في كل منعطف تاريخي، منها الحفاظ على بقاء المشروع كما أسلفنا من خلال فكرة الإمام المستتر، ثم الاجتهاد في تبرير جرائم الكهنة وتبييض تاريخهم، وطمس الحقائق التاريخية التي تثبت دمويتهم، وسعيهم فقط للحكم بأي وسيلة وبأي طريقة، وسعيهم الحثيث على تقزيم الشخصية اليمنية من خلال استهداف رموزها وثقافتها وتاريخها، وهو عين ما تقوم به السلالة اليوم.
إن قراءة المشهد الحالي لعودة الإمامة بمشروعها العنصري السلالي، يجب أن يقودنا بكثير من الوعي، إلى فهم عميق لعوامل استمراره، وقدرته على استلهام تجاربه، وثبات منطلقاته ونظرياته، فما يؤمن به الحوثي هو عين ما جاء به الكاهن الرسي، وقامت عليه كل دعوات الكهنة الإماميين، ففرية الأحقية في الحكم، وخرافة الولاية، ومفردات السيد والعلم والولي هي ذاتها في كل مراحل تاريخهم، وإن صبغوها اليوم ببعض المستحدث من المصطلحات.
ذلك يقودنا، حتماً، إلى أهمية تجاوز إخفاقات الماضي في التعامل مع مشروع قائم على غياب المشروع اليمني، والمستفيد من غياب الرؤية الحاسمة في مواجهته والقضاء عليه وتجريمه، فالأفكار العنصرية لا يجوز بحال التسامح معها، أو ترك ثغرات تعيدها إلى العبث متى ما توفرت لها ظروف الغفلة وامتلكت السلاح، وفي تجارب الأمم فيما يتعلق بالحركات والأفكار العنصرية أمثلة يجب أن ترسم سبل مواجهة أمثل للقضاء عليها.
إننا ونحن نخوض هذه الحرب مع الفكر العنصري السلالي، يجب أن نستقرئ التاريخ، ونستفيد من تجاربه، وأن نتجاوز سلبيات مواجهتنا له، فالأحداث والوقائع والتجارب لا تدع لنا إلا سبيلاً واحداً للخلاص، أن تكون هذه المعركة معركة الفصل الأخير مع الفكر الإمامي العنصري، وأن يتداعى اليمنيون إلى إنهاء جذوره، وتجريم فكره، كمعركة أخيرة وحاسمة.