الخميس 21/نوفمبر/2024
عاجلعاجل

بين "ثورة الحسين" و"صلح الحسن"؟

يحيي المسلمون الشيعة ذكرى استشهاد الحسين بن علي الإمام الثالث عندهم في العاشر من محرم، إثر مقتله على يد قوات أموية في العراق ضمن سلسلة من الحروب الأهلية التي اندلعت بين المسلمين في القرن الهجري الأول.  

 

وبمناسبة هذه الذكرى ينبغي الإشارة إلى جملة من المعطيات، في مقدمتها كثرة الاستهلاك السياسي لتلك المناسبة، لدرجة أنْ أصبح الحسين الذي قتل مرة واحدة على يد جيش الأمويين، يقتل اليوم ويعتصر آلاف المرات على يد الإيرانيين وجماعات التشيع السياسي التي تدور في فلك طهران، الأمر الذي يتطلب بالفعل إنقاذه وإنقاذ التشيع كله من سيطرة أولئك الذين حولوا الحسين إلى زعيم مليشيا والتشيع إلى أيديولوجيا لخدمة أهداف معروفة. 

 

قد يكون هذا الكلام مغايراً للحقيقة عند الكثير ممن عملت آلة الدعاية الإيرانية لعقود طويلة على غسل أدمغتهم، بإعادة إنتاج الحسين وثورته مفرغة من معانيها ومرتبطة بطقوس تعود إلى معتقدات أسطورية قبل الإسلام، وقبل مرحلة الديانات التوحيدية من الأساس. 

 

إن الحشود الجماهيرية التي تخرج اليوم في ذكرى مقتل الحسين إنما تخرج محبة وتعاطفاً مع صورة الحسين الدينية، لكن تلك الحشود تسمع طوال أيام وليالي مواسم "الحج إلى كربلاء" - بطريقة مباشرة أو غير مباشرة - الكثير من الدعاية الموجهة التي تضع العرب إجمالاً في مواجهة تاريخية مع الحسين، وتضع النظام الإيراني ومليشياته مع تلك الشخصية الرمزية في صف واحد. 

 

وعلى ذلك، فإن مهمة استرداد الحسين من يد ساسة طهران هي مهمة جليلة ينبغي أن يتصدى لها - في المقام الأول - جماهير العرب الشيعة ومفكروهم، ذلك أن بقاء الحسين أسير الاستهلاك النفعي الإيراني قد حمَّله جرم الكثير من مليشيات طهران المسماة باسمه، والتي تهتف: "يا حسين"، وهي تطلق صواريخ إيران في كل اتجاه. 

 

دعونا نسأل سؤالاً جوهرياً: لماذا يتم الاحتفاء بـ"ثورة الحسين"، ولا يتم الاحتفال بـ"صلح الحسن"؟ وهل كان الحسن مخطئاً بسعيه للسلام مع معاوية حقناً للدماء أم أخطأ الحسين في قتاله ومعه أطفاله ونساؤه الذين ربما ظن أنهم سيمنعون خصومه من التجرؤ على قتله في معركة غير متكافئة؟ 

 

لقد كان الحسن رجل السلام الذي أدرك أن مصلحة أسرته ومصلحة الدولة الإسلامية تعلو على الخلافات القبلية بين الأمويين والهاشمين، وهي الخلافات التي كانت المحرك الأول لاندلاع واستمرار الخلاف السني-الشيعي، قبل أن يأخذ الخلاف منحى آخر في القرون اللاحقة بعد تدخل العنصر الفارسي، ليكتسب الصراع أبعاداً قومية، عربية-فارسية، لا تزال تداعياتها تنداح في تلك البحيرة الإٍسلامية الراكدة إلا من تلك الموجات الطائفية الموجهة. 

 

إن الدوائر التي عملت على تبني رمزية الحسين على حساب الحسن إنما فعلت ذلك عبر التاريخ عن قصد، لاستمرار صراع الأمويين والهاشميين داخل الصف العربي والمسلم بصور وأساليب مختلفة، ذلك أن تبني رمزية "الحسن المسالم" لا يتفق والأهداف التي من أجلها تم ترميز "الحسين المقاتل"، وإعادة إنتاج صورته على النحو الذي نرى، وبشكل يمد في نسغ الصراعات العربية-العربية المعاصرة في العراق واليمن وسوريا ولبنان، حيث يبدو البعد الطائفي للصراع مرتبطاً بتحقيق مصالح إيرانية ودولية مختلفة، ليس من بينها المصالح العربية، ولا القيم الدينية بالتأكيد.   

 

وقد يقول قائل إن مأساة الحسين كانت كفيلة بتخليد ذكراه على العكس من الحسن، وهذا الطرح على وجاهته تنقضه حقيقة أن حزناً لا يمكن أن يستمر أكثر من 1400 عاماً، إلا إذا كان هذا الحزن حزناً سياسياً مقصوداً لأغراض نفعية، تتم بموجبها عمليات "مَنْتَجة" للحسين في صور تضمن ديمومة الصراع الذي ينهش الجسد العربي المسلم، خدمةً لمصالح إيرانية لم تعد خافية على أحد. 

 

إن دم الحسين لدى الشيعة ليس أغلى من "دم المسيح" لدى المسيحيين الذين يعتقدون قتله وصلبه على يد اليهود، ومع ذلك تجاوزت المسيحية هذه العقدة وتمت "تبرئة اليهود من دم المسيح"، والاعتذار لهم عن تقصير الكنائس في حمايتهم خلال فترة المحرقة، وتجاوز أحقاد التاريخ، لينتهي الأمر بتبادل التمثيل الدبلوماسي بين الفاتيكان وإسرائيل، رغم تمثيل كل منهما لديانتين مختلفتين وتاريخين معاديين. 

 

ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً فإن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب الذي مات مقتولاً لم يستمر الحزن عليه كما هو الشأن بالنسبة للحسين، على الرغم من أن علياً مقدّم على الحسين لدى المسلمين سنة وشيعة. 

 

فلماذا الحسين تحديداً؟ 

 

دعونا نضرب مثالاً آخر يكشف حقيقة القوى التي عملت على ترميز شخصية دون أخرى، والتي وضعت المعايير التي وفقاً لها تتم "صناعة العدو"، تشجيعاً لثقافة الموت في الحروب الأهلية العربية الإسلامية باسم الحسين، وبمقولات من مثل: " لبيك يا حسين" و"هيهات منا الذلة" و"يا لثارات الحسين" و"الدم ينتصر على السيف". 

 

خذوا هذا المثال الواضح: لقد اختار الخليفة عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب وزيراً له، وبعد سنوات قتل عبدالرحمن بن ملجم علياً. فما معنى أن ينصبَّ على رأس عمر من "اللعن والكراهية" إلى اليوم أضعاف ما ينال ابن ملجم؟ 

 

ألا يعني ذلك أن "صناعة العدو" لا تتم حسب معايير كراهية هذا "العدو" لـ"أهل البيت"، بل حسب معاداته لـ"أهل الإمبراطورية" التي قضى عليها؟ 

 

إذ كيف ينال من جعل علياً وزيره أضعاف ما ينال من قتله من اللعن والكراهية، لو لم يكن المعيار يدور حول من "هدم الإيوان" لا من "قتل الإمام"؟ 

 

واليوم ونحن نتابع الطقوس المختلفة لمناسبات اللطم والتطبير والخرافة واللعن والسب والشتيمة لرجال التاريخ العربي الإسلامي من كبار الخلفاء والفاتحين ينبغي أن ننظر إلى النتائج الكارثية لكل هذا الشحن الطائفي الذي يخرج به المشاركون في تلك المناسبات التي يسمعون فيها كل أنواع اللعن والقذف والتحريض ودعوات الكراهية التي تخفيها الألحان الشجية التي يتم انتقاء من يؤديها بعناية فائقة من الموهوبين في الأداء، سعياً وراء استدرار الحزن، ومن ثم توجيه هذه الطاقة السلبية المدمرة نحو غالبية المسلمين الذين يمثلون "الآخر المذهبي"، على اعتبار أنهم "قتلة الحسين"، أو في أفضل الاحتمالات "أحفاد قتلته" الذين ينتشرون في لبنان وسوريا والعراق واليمن وكل بلد عربي ذهب إليه "حماة العتبات المقدسة"، لملاحقة قتلة الحسين الذين قُتلوا - أصلاً- قبل مئات السنين. 

 

 

 

ثم دعونا نتساءل عن الهدف من الترويج لمقولة "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"؟ ألا تمثل تلك العبارة التي لم ترد عن أي من الأئمة محاولة لتعميم ثقافة القتل وإدامة وتوسيع رقعة الصراع الطائفي، رأسياً وأفقياً، زمانياً ومكانياً، حتى تظل دول عربية بعينها ضعيفة من الداخل ليتمكن منها "حماة المراقد" الذين يفاخرون بولائهم "للوي الفقيه"؟ 

 

ولنختم بسؤال: هل كان العراقيون قبل تدخل إيران في بلادهم يعرفون أن فلاناً سني وعِلاناً شيعي؟ أما اليوم فهم للأسف يعرفون أن السيّاب سني والبياتي شيعي؟ ولنسأل السوريين: هل كنتم تعرفون تقابل "سني-شيعي"، قبل دخول فاطميين وزينبيات وبقية مليشيات إيران في سوريا؟ واليوم أنتم بالطبع تعرفون أن نزار قباني سني وسليمان العيسى علوي؟، والسؤال ذاته يمكن أن يوجه للبنانيين واليمنيين الذين بنت إيران مستوصفاً طبياً يقدم لهم "خدمة مجانية"، قبل أن يفيقوا على المستوصف وقد ابتلع كامل التراب اليمني مطلع العام 2015، قبل أن يتم طرد مليشيات إيران من أكثر من نصف مساحة البلاد. 

 

اسألوا الأسرة العربية المكونة من أب سني وأم شيعية: كيف دخل الإيرانيون فانهدمت الأسرة بالطلاق وسقط المجتمع بالحرب؟ و"كذلك يفعلون". 

 

ختاماً: علينا اليوم ونحن نعيش هذا "الهولوكوست" العربي الرهيب أن نختار بين "ثورة الحسين" التي تم إعادة توجيهها اليوم لاستهداف العرب و"صلح الحسن" الذي تم تجاهله لضمان ديمومة هذا الهولوكوست الطائفي الرهيب على الأراضي العربية. 

 

"لقوم يعقلون".