حين أصدر محافظ البنك المركزي اليمني أحمد المعبقي تعليماته بنقل غرف العمليات للبنوك العاملة في صنعاء إلى عدن كان من ضمن أهدافه إنقاذها وإنقاذ أموال المودعين ورجال الأعمال من الوقوع تحت طائلة قرار الإدارة الأميركية بتصنيف جماعة "أنصار الله" الحوثية جماعة إرهابية دولية، مما يعني عملياً أن كل جهة متعاملة مع المؤسسات المالية في مناطق سيطرة "السلطة" في صنعاء لن تصبح قادرة على أي إجراء مالي خارجي.
صنعاء تتعامل بعصبية
لكن "السلطة" في صنعاء تعاملت مع الإجراءات بطريقة عصبية تصل إلى حد الهوس والتخوين، فعمدت إلى خلط الأوراق المتعلقة بالملف الإنساني الذي يمثل حجر الزاوية في خريطة الطريق التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لإنهاء الحرب، فاحتجزت أربع طائرات تمتلكها الخطوط الجوية اليمنية ومنعتها من مغادرة مطار صنعاء، مما تسبب في إرباك حركة نقل الحجاج من جدة، وعلق الركاب في الأردن. وبطبيعة الحال فإن إعلام "الجماعة" قدم تبريرات لا يمكن قبول منطقها ولا التعامل معها بجدية.
تجسيد الفجوة
قضية البنك المركزي هي الصورة التي تجسد الفجوة الهائلة التي صنعتها الحرب بين اليمنيين لأن معالجتها كانت، ولا تزال، ممكنة إذا ما راعى الطرفان مصلحة الناس أولاً، وهو ما يسعى إليه محافظ البنك أحمد المعبقي. وقد تمكن منذ توليه في ديسمبر (كانون الأول) 2021 من وقف "الإسهال" الذي قام به البنك في طباعة العملة المحلية دون التفات إلى الكارثة التي أحدثها ذلك التصرف غير المسؤول الذي كان الغرض الوحيد منه الحصول على عمولات الطباعة.
أزمة سياسية لا اقتصادية
نحن اليوم أمام أزمة حقيقية، لكنها ليست اقتصادية ومالية، وإنما نحن أمام أزمة سياسية خانقة سببها، وهو ما أقوله وأكرره، عدم وجود رؤية جادة، والإمعان في الغموض والإسراف في الوعود والاكتفاء بالصور والبيانات.
معروف أن الإجراءات التي اتخذها البنك في عدن لم تكن وليدة اللحظة، وأن المساعي لتوحيد العملة وإيجاد قاعدة مشتركة للتعامل بين البنكين كانت تصطدم دوماً بتشدد في مطالب "السلطة" في صنعاء وربطها الأمر بالمشاركة في إيرادات تصدير النفط من شبوة ومأرب والإصرار على دفع مرتبات موظفي المؤسسات (بما فيها المؤسسة العسكرية والأمنية) من عائدات "الشرعية".
وعلى رغم الإدراك أن موظفي المؤسسات العامة في كل اليمن هم مسؤولية مباشرة وعبء يقع على السلطة "الشرعية" فإنه من غير المعقول ولا المنطقي ولا المقبول أن تحتفظ "السلطة" في صنعاء بكل ما تتحصل عليه من الجبايات والضرائب والرسوم والجمارك وتمتنع عن الإنفاق على المؤسسات التي في نطاق المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها.
قرار سياسي
كما في كثير من القضايا فإنه من العسير الفصل بين الإجراءات التي توقعها كثر أو تمنوا الالتزام بها باعتبارها، من وجهة نظرهم، إضعافاً لقدرات "السلطة في صنعاء المالية، لكن المتحمسين تعاملوا مع الأمر كمسألة فاصلة في المعركة متغافلين عن صعوبة استقلال القرار الداخلي لسلطة لا تدفع مرتبات موظفيها إلا بشق الأنفس، وهم يعلمون أنه لولا متوالية المنح التي تقدمها الحكومة السعودية والمشاريع التي تنفق عليها بسخاء، وإلى جانبها دولة الإمارات، داخل اليمن، لانهار المعبد الذي تتآكل أعمدته بفعل الفساد والإهمال والغياب المستدام.
البنك ووحدة القرار
في خضم هذه الأزمة يحاول محافظ البنك جاهداً المحافظة على استقلالية البنك وإبعاده عن التخبط السياسي والتردد الجلي في الدفاع عن قرارات اتفق عليها. ويدرك المعبقي أنه لن يتمكن من تسيير أعمال البنك إلا بوحدة القرار السياسي أولاً.
ومن غير المجدي هذا الخروج إلى الشوارع، في وقت قد يعلم فيه الذين يرفعون الشعارات العاطفية أن الأمر ليس بيد الرجل ولا يستطيع وحده مهما بلغت قدراته أن يسير بالإجراءات التي اتخذها حماية للنشاط المالي والتجاري وودائع المواطنين.
ما هو الممكن؟
إن من الواجب بعد الاستجابة للضغط الدولي والإقليمي الالتفات إلى التحذير بأن "التأجيل" في تنفيذ الإجراءات لا يمكن أن يكون مستداماً إلا إذا خففت "السلطة" في صنعاء من عبثها في القطاع المصرفي خصوصاً، والاقتصادي عموماً، وأن تدرك الأخطار التي تجر البلاد إليها، وما سينتج منها من سقوط كامل لقيمة العملة المحلية إلى الحد الذي نشاهده في بلدان أكثر موارد وإمكانات.
مسؤولية صنعاء
إن على "السلطة" في صنعاء الارتقاء بتصرفاتها ووقف إجراءاتها العبثية والتعامل بمسؤولية مع الأوضاع المأسوية التي يعيشها الناس وإدراك أن الرياح العاتية التي تعصف باليمنيين لن تجد معها الشعارات والتهديدات والوعيد.
لقد استنزف غالب اليمنيين كامل مدخراتهم ودخلوا في منحدر الفاقة التي لم تمر بها البلاد في أحلك أوقاتها، وهذا لن يتوقف إلا بالتعاون بين السلطتين المصرفيتين في أسرع وقت.
مؤشرات الانهيار
في الختام على "الشرعية" الالتفات إلى تصريحات رئيس البنك الأهلي في عدن، والتي أعلن فيها أرقاماً مفزعة تشير إلى العبث في الموارد المحدودة، والتي يجري إنفاقها دون رقابة ولا محاسبة. وهو أطلق صرخة يجب أن تفهمها الحكومة، وأن تتوقف فوراً عن الانفاق الذي بلغ حد التبذير على ما قال إنه لآلاف الشخصيات العاطلة المقيمة خارج البلاد الذين يتلقون إعانات شهرية تبلغ ملايين الدولارات دون أي مردود إيجابي.
وليفهم الجميع أن الدول ليست جمعيات خيرية لرعاية الفاسدين والعابثين، ويجب على رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي أن يرتقوا بأدائهم وإحساسهم بالمسؤولية والوجود داخل البلاد كما يفعل الشيخ سلطان العرادة والعميد طارق الصالح الوحيدان اللذان يقومان بعمل إيجابي مشهود في إطار الجغرافيا التي يوجدان فيها.
*نقلا عن اندبندنت عربية