في خضم الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة المدعومة بقوة من الولايات المتحدة الأمريكية، بات العالم ينظر بالعين المجردة إلى تورط واشنطن في الإسناد العسكري لجرائم الإبادة الجماعية ومخططات التهجير التي تستهدف الشعب الفلسطين في قطاع غزة، والتي تجاوزت كل قواعد وأخلاقيات الحروب، فيما يجري صرف الأنظار نحو التطور العسكري الملتبس في جنوب البحر الأحمر والذي تمثل واشنطن الطرف الأبرز فيه.
في الواقع لا يمكن التقليل من التطور العسكري الناشئ في جنوب البحر الأحمر، والذي جاء على ما يبدو بأولويات وأهداف مختلفة ومعاكسة كليا لأهداف مخططات الردع الأمريكية التي كانت قد بدأت بتنفيذها في السادس من آب/ أغسطس من العام الماضي في ذات المنطقة، أي قبل شهرين فقط من اندلاع معركة طوفان الأقصى.
ففي ذلك الوقت أرسلت واشنطن المدمرتين "يو أس أس باتان" و"يو أس أس كارتر هول" وعلى متنهما ثلاثة آلاف جندي أمريكي إلى منطقة عمليات القيادة المركزية الأمريكية، التي تشمل البحر الأحمر وخليج عدن وبحر عمان والخليج العربي، في ترجمة عملية لإعلان أمريكي بهذا الخصوص صدر في تموز/ يوليو، وكان قد سبقه تحرك أمريكي فعلي شمل إرسال طائرات إلى المنطقة في آذار/ مارس.
حينها نظر المراقبون إلى التحركات الأمريكية على أنها انعكاس لحالة عدم الرضى الأمريكي على التطورات الجوهرية في علاقات حلفائها التقليديين، وفي مقدمتهم الحلفاء السعوديون، تجاه القوة العظمى الاقتصادية الصاعدة، الصين؛ التي كانت قد نجحت في إنجاز مصالحة تاريخية بين السعودية وإيران في العاشر من آذار/ مارس من العام الماضي، ما يعني أن التحرك العسكري لم يكن يتضمن أي نوايا لنشر الطمأنينة في أوساط الحلفاء الذين خذلتهم بالفعل قبل ذلك في مناسبات مهمة، بل لردعهم كذلك وإعادة ترشيد سلوكهم بما يتفق مع مؤشر المصالح الأمريكية.
اليوم ثمة من يعتقد، ومعه كل الحق، بأن الولايات المتحدة وبدافع إيقاف نزيف السمعة الدولية التي يتعرض لها الكيان الإسرائيلي، ربما أرادت صرف أنظار العالم عن جرائم الحرب في قطاع غزة إلى بؤرة صراع لها أبعاد خطيرة على التجارة العالمية، والتي تتغذى من السلوك العسكري العشوائي لجماعة الحوثي في جنوب البحر الأحمر، والتي بدأت في اعتراض والسيطرة على السفن ونجحت بالفعل في الاستيلاء على سفينة نقل السيارات "جلاكسي ليدر" المملوكة لرجل أعمال إسرائيلي وجرها إلى ميناء الصليف في البحر الأحمر، وتطور النشاط العسكري للجماعة إلى محاولات رصدتها البحرية الأمريكية، لاعتراض سفن بقوارب على متنها عناصر مسلحة وأخرى مفخخة، وإطلاق صواريخ بالستية مضادة للسفن وتنفيذ هجمات بالطائرات المسيرة.
واشنطن هنا لا تتبنى النشاطات العسكرية للحوثيين بالتأكيد، ولكنها تناور لإدارة ذلك النشاط على نحو تنجح معه في صرف أذهان العالم إلى مشكلة أخرى بدلا من التركيز على الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، إذ لا يبدو أن المصالح الحيوية لواشنطن تتأثر بشكل جوهري من النشاط العسكري للحوثيين، كما أن البحرية الأمريكية ومعها بقية السفن الحربية الغربية تمتلك القدرة على التعامل مع تهديدات الحوثيين بشكل كفؤ للغاية كما رأيناها خلال الفترة الماضية، على الرغم من توالي البيانات الملاحية والأخبار التي تفيد بأن عددا من الخطوط الملاحية الدولية الرئيسة بدأت بتغيير مسارها عبر رأس الرجاء الصالح لتفادي المخاطر العسكرية الناشئة في البحر الأحمر.
قبل يومين وقّع اثنا عشر بلدا من حلفاء الولايات المتحدة بينها اليابان؛ على بيان وصف بأنه الإنذار الأخير للحوثيين لتفادي إجراء عقابيٍ دولي، وربما مثّل هذا البيان تعويضا عن فشل الولايات المتحدة في تأسيس تحالف دولي لمواجهة التهديدات العسكرية في البحر الأحمر، ومع ذلك فإن التهديد بتوجيه ضربة عسكرية لجماعة ما دون دولة لن يكون له أثر حقيقي على الأرض، حتى لو تضمن ذلك ضرب بنى تحتية في الأراضي التي يتحكم بها الحوثيون في شمال اليمن.
الولايات المتحدة طالما كانت حريصة على التمكين الجيوسياسي للحوثيين في اليمن، وضغطت عبر اتفاق ستوكهولم لإبقاء سيطرتهم على الموانئ اليمنية الرئيسية في البحر الاحمر، وأجبرت السعودية على أن تعقد تفاهمات مباشرة مع الحوثيين على حساب مركزها الجيوسياسي المهم في المنطقة، لذلك سيكون من الصعب اليقين بأن واشنطن قد تُقدم على تغيير جذري في سياساتها تجاه جماعة الحوثي أو إيذائها بضربة عسكرية مميتة، وإن تحقق ذلك فستكون ضربات غير مؤثرة، وسيتحقق للحوثيين ما يريدونه إذ سيثبتون للآخرين بأنهم في حالة مواجهة حقيقية مع أمريكا.
هناك ضغوط أمريكية على صلة بالوضع في جنوب البحر الأحمر، لإيقاف التحرك الذي بدأته السعودية وسلطنة عمان للوصول إلى اتفاق على خارطة طريق تنهي الصراع في اليمن، على الرغم من أن إدارة بايدن لطالما تباهت بأن وقف إطلاق النار والتهدئة منذ نيسان/ ابريل من عام 2022 في اليمن هما من الإنجازات الدبلوماسية المهمة للرئيس بايدن في منطقة الشرق الأوسط التي تعصف بها النزاعات.
قد تكون هذه الضغوط هي إحدى أدوات التأثير في سلوك الحوثيين، لكن ذلك لن يحد من نشاطهم بالتأكيد، لأن إيران بدأت بالفعل في استثمار النشاط العسكري للحوثيين ومناخ الارتياح الذي أثاره في العالم العربي، لإعادة تصميم مكانة أكثر رسوخا للحوثيين في اليمن والمنطقة، وتعزيز تأثيرهم في المعادلة الدولية، كما صرح بذلك زعيم حزب الله اللبناني، وقد تشجعهم على تجاوز التفاهمات التي تشرف عليها الأمم المتحدة وواشنطن وترعاها دول إقليمية من أجل تحقيق السلام في اليمن، وعلى التحلل من التزامات خارطة الطريق التي يبدو أنها تعثرت بفعل تفاعلات المعركة المصيرية في غزة وارتداداتها في المنطقة.
*عن عربي 21