الخميس 21/نوفمبر/2024
عاجلعاجل

صدمة الحرية .. المثال الألماني.

تقع ولاية تورينجيا في وسط شرق ألمانيا، ويعيش بها ما يزيد عن مليوني نسمة. تؤوي الولاية، بحسب مكتب الإحصاء التابع لسلطاتها، 2.7% فقط من إجمالي اللاجئين في كل ألمانيا. يشكل الأوكرانيون زهاء 60% من المجموع. وبصورة عامة فإن أقل من 10% من سكان الولاية من ذوي أصول أجنبية، ثلثهم على الأقل من دول شرق أوروبا. بينما يشكل اللاجئون السوريون حوالي واحد في المائة فقط من مجموع السكان في الولاية ذات ال16 ألف كيلو متراً مربّعاً. 

 

كانت الولاية جزءاً من ألمانيا الشرقية في السابق. بعد ما يزيد عن ثلث قرن من دمقرطة مواطنيها، والعمل الدؤوب على إلحاق شرق ألمانيا بالمناخ الديموقراطي الليبرالي، فإن الولاية الشرقية تبدي ميلاً متزايداً إلى الظواهر الراديكالية غير الديموقراطية، وتدير ظهرها للأسس الأخلاقية للديموقراطية وفي مقدمتها التنوع والتسامح. 

 

الانتخابات المحلية التي أجريت مؤخراً في تورينجيا من أجل انتخاب برلمان الولاية المكون من 88 مقعداً أعطت الأحزاب الراديكالية، أقصى اليمين وأقصى اليسار، 59 مقعداً(67%) . في حين عجز حزبان من الائتلاف الثلاثي الذي يحكم ألمانيا – الخضر والديموقراطيون الليبراليون – عن اجتياز العتبة البرلمانية. أما حزب مستشار ألمانيا الراهن فحلّ في ذيل القائمة بعدد 6 مقاعد. في ولاية ساكسونيا المجاورة، بضعف عدد سكان تورينجيا، تجاوزت حصة الأحزاب المتطرفة نسبة الخمسين بالمائة، ونحواً من هذه النتيجة جاءت الأرقام من ولاية براندنبورغ المحيطة ببرلين.

 

  ثمة خط ملحوظ لا يزال يقسم ألمانيا إلى ضفتين شرقية وغربية، تحديداً فيما يخص الموقف من الديموقراطية الليبرالية، كما الموقف من فكرتي أوروبا والنيتو. تبدو تفضيلات الألمان شرقاً ذاهبة في اتجاه ديموقراطية غير ليبرالية، أو ما بات يعرف في العلوم السياسية بالديموقراطية الهجينة، وهي خليط من السلطوية والمؤسسات التمثيلية. تجد هذه التفضيلات الراديكالية في مسألة الهوية زوّادتها، فالحديث يدور حول ما يسميه تيو سارازين، في كتابه ألمانيا على سكّة مائلة، بالتداعي الثقافي. في بلد ينتمي ربع سكانه إلى أصول أجنبية، كما تقول البيانات الرسمية، يختار الراديكاليون عرقاً واحداً، أو ثقافة واحدة لشيطنتها وتحميلها كل الأعباء. فالسوريون الذين يشكلون أقل من 1% من إجمالي سكان ولاية تورينجيا باتوا تهديداً وجودياً للأخلاق والثقافة المسيحية في الولاية. وبرغم تأكيدات وزارة الداخلية على أن 23 من حاصل 28 اعتداء على الكُنس اليهودية في ألمانيا قام بها المتطرفون اليمينيون واليساريون، وأحيلت النسبة المتبقية إلى مجهولين، فإن الحقائق سيجري تزييفها داخل حديث عام عن معاداة السامية المستوردة، أو القادمة من الشرق الأدنى. ستعطي اللغة المعوّمة انطباعاً زائفاً عن حقيقة أولئك الذين يهاجمون المؤسسات الدينية اليهودية. كانت معاداة السامية واحدة من الأسس الأخلاقية التي استند إليها اليمين الراديكالي في خطابه المعادي للمسلمين. سبق لتوني موريسون، الكاتبة الأميركية ذائعة الصيت، أن لاحظت كيف أن الفاشية تشق طريقها من خلال شيطنة فئة ما من السكان وعزلها، ثم تحميلها تبعات كل ما يجري في البلاد. 

 

في العام 1938 نشرت كاتدرائية تورينجيا كُتيباً صغيراً يحوي ما يزيد عن مائة اقتباس من كتاب "عن اليهود وأكاذيبهم" للمصلح الألماني الأشهر مارتن لوثر، وهو سفر ضخم من حوالي 60 ألف كلمة أصدره الرجل قبل وفاته بثلاثة أعوام. يعتبر كتاب لوثر أخطر، وأفحش وثيقة معادية لليهودية في التاريخ. فهم القادمون من "عش الشيطان" الذين ينبغي أن يُضربوا وتراق دماؤهم في الشوارع والحقول. وفي العام 2017 احتفلت ألمانيا بمرور خمسمائة عام على الإصلاح اللوثري، فقام الراديكاليون في ولاية تورينجيا وما حولها من ولايات الشرق بتوزيع ملصقات تحمل صور مارتن لوثر وعبارات تقول "على العهد ماضون". فُهمت تلك الإشارة في سياقها التاريخي بوصفها تهديداً مبطّناً لليهود. الأمر الذي استدعى أن تصدر 42 مؤسسة ثقافية واجتماعية يهودية- ألمانية بياناً مشتركاً حمل عنوان "البديل لألمانيا ليس هو بديلاً لليهود". ثمة جذور تاريخية واجتماعية عميقة هي ما يمنح السياسة في شرقها الألماني شكلها الراهن. كعادة الفاشيات فإنها تفلت من حقيقتها إلى ما يسميه ترامب بالحقائق البديلة. وهكذا يبدأ تاريخ العنف مع وصول أول لاجئ إلى البلاد. 

 

يتعقد إيقاع السياسة في ألمانيا تحت مناخ عام من الصدمات المتلاحقة منذ العام 2020 كما يرصدها مارتن ديبيس في كتابه "ديموقراطية تحت الصدمة". في العام 2020، أيضاً في ولاية تورينجيا، وجدت الأحزاب السياسية نفسها مضطرة، وفقاً للنتائج، لاختيار يسارياً راديكالياً رئيساً لحكومة الولاية. انضم البديل من أجل ألمانيا، اليميني الراديكالي، إلى الإجماع السياسي في مشهد غير مسبوق من تطبيع الراديكالية داخل بنية الحياة السياسية الألمانية، أو ما يطلق عليه مارتن ديبيس بالأزمة السياسية الأخطر منذ انهيار جدار برلين. 

 

  التحقت ولاية براندنبورع المحيطة ببرلين بجارتيها ساكسونيا وتورنجيا حيث حصد الراديكاليون، حزب البديل وائتلاف ساره فاغنكنيشت، على ما يداني ال45% من الأصوات. يتساءل الألمان عمّا يجري في شرق البلاد. إذ كشفت الدراسة التي أجرتها مؤسسة فريدريش – إيبرت، 2023، أن نسبة عدم الرضا النسبي والمطلق عن الديموقراطية بلغ 67% في شرق ألمانيا. حاول المؤرخ المعروف كوفالشوك تفكيك المعضلة إلى عناصرها الأولية من خلال العودة إلى حقبة الحرب الباردة لمعرفة التخيلات، والتهيؤات، التي تشكّلت لدى مجتمع شرق ألمانيا عن ديموقراطية الغرب. في كتابه "صدمة الحريّة" يجادل كوفالشوك بالقول إن أحلام الرفاه في "الغرب الذهبي" كانت الدافع الأبرز خلف ثورة الحرية، 1989/1990، التي أنجزها مواطنو الشرق الألماني. بشكل عام فإن فكرتي الحرية والديموقراطية، يؤكد كوفالشوك، تظهران قدراً من الحقائق الزائفة، أو الوعود الخادعة. يقف كوفالشوك، في محاولته لفهم ما يجري، على ما وقف عليه ناقدو الديموقراطية في العقدين الماضيين حين لاحظوا أن أحد أهم أسباب الاستياء الشعبي من الديموقراطية هو ذلك المزيج الضار من البروباغاندا السياسية والحقائق الاقتصادية. فالساسة يوزّعون الوعود بالمساواة، والاقتصاد يوزّع اللامساواة.

 

يظل محتملاً على الدوام أن تجلب الديموقراطية معها عوامل فنائها، وفي النماذج الأفضل لا-استقرارها. لم يكن هتلر مصادفة سياسية، فقد جيء به ليضع حدّاً لديموقراطية من فرط رحابتها باتت عاجزة وظيفيّاً. خلال وقت قصير، من أسابيع، عجز ثلاثة من كبار الساسة الألمان عن تشكيل حكومة بسبب التشظي السياسي تحت سقف البرلمان. رأت النخبة في هتلر، حلّاً مؤقتاً ليضع حدّاً للفوضى السياسية "ثم سندفعه إلى الزاوية ونجعله يولول"، كما سمع الرئيس الألماني فون هيندينبورغ من مستشاريه. أنهى هتلر ديموقراطية فايمر، وقاد البلاد إلى هاويتها السحيقة. نحواً من ذلك فعل ملك إيطاليا، أكتوبر 1922، مع موسولويني الذي لم يحصل حزبه سوى على 6% من مقاعد البرلمان. بسبب العطالة التي أنتجتها الديموقراطية الراديكالية قررت النخبة الحاكمة استعارة رجل من "بلطجية السياسة" لإخماد فوضى البرلمان، فذهب بالبلاد كلها إلى سوء المصير. 

 

أطيح بديموقراطيات عديدة في القرن الماضي عسكرياً، أما القرن الجديد فبات يشهد انهياراً للديموقراطيات من داخلها. فقد انزلقت أكثر من 30 ديموقراطية ناشئة إلى الوراء في الأعوام الماضية، وفقاً لفريدام- هاوس. ارتكبت البروباغاندا الديموقراطية خطأ قاتلاً حين ربطت بين الحرية والرفاه. الفرضية القائلة بأن الحرية السياسية هي الطرق المؤكد إلى دولة الرفاه تدحضها الحقائق القاسية، فقد قال 50 في المائة من الأميركان إنهم يكابدون من أجل لقمة عيشهم. في حين تدلنا بيانات أخرى على أن الصين "الأوتوقراطية" قد نجحت في الانتقال بنصف مليار نسمة من الفقر إلى مصاف الطبقة الوسطى خلال ربع قرن من الزمن.  

 

خدع "نداء جنيّات البحر" شعوباً كثيرة التحقت بما أسماه هانتيغتون "الموجة الثالثة من الديموقراطية". فعندما استسلم أوديسيوس ومن معه، في ملحمة هوميروس الشهيرة، لنداء الجنّيات وذهبوا وراءهن حدث أن أضاعوا الطريق عشرين عاماً. كان متوقعاً أن ينتقل العالم من الموجة الثالثة للديموقراطية إلى الرابعة، غير أن الحديث سرعان ما ذهب إلى صعود الموجة الثالثة من الأوتوقراطية، فضلاً عن انخفاض حاد في ديموقراطية "العالم الحر"، وانحسار الموجة الثالثة. وضعت أميركا على عاتقها مهمة دمقرطة العالم الثالث، أو الجنوب العالمي، مانحة نفسها لقب قائد العالم الحُر. إلى أن توجّب عليها، مؤخراً، أن تتدبر شأنها الديموقراطي الداخلي الآخذ في التصدّع. فالقوة التي تتواجد على 95 % من بحار العالم، وتفرض عقوبات اقتصادية على ستين دولة، بحسب تقرير مثير لواشنطن بوست، من غير المُحتمل أن تكون سياستها الخارجية صادرة عن قوة ديموقراطية أخلاقية. في لائحته الداخلية، 2016، كما في برنامجه الانتخابي 2024 يطالب البديل الألماني، الراديكالي، بطرد القوات الأميركية من أراضي ألمانيا، لأن "اهتمامات أميركا ومصالها تتناقض بالمطلق مع المصالح الألمانية" وفقاً لكلمات أليس فايدل، زعيمة الحزب. يهدد الصعود اليميني كل ما استقر عليه الغرب منذ الحرب الثانية، من ذلك الديموقراطية نفسها، وتلك الفكرة الغامضة عن واحدية العالم الحُر وتماسكه. 

 

ثمة أزمة عديدة الطبقات في مراكز الديموقراطية، ويعلم دارسو التاريخ أن ظاهرتي موسوليني وهتلر برزتا من داخل الديموقراطية وليس من خارجها.