يستعيد اليمنيون علاقتهم بالثورة في شهري سبتمبر وأكتوبر من كل عام من خلال تزيين مواقع التواصل الاجتماعي ، ومطاهر الاحتفالات الأخرى ، بشعارات الثورة وأناشيدها وكل ما يذكرهم بأن اليمن عاش ثورتين ما كان لأي منهما أن ترى النور أو تنجح لولا الأخرى ؛ فلولا سبتمبر لما كانت أكتوبر ، ولولا أكتوبر لما خرجت سبتمبر من مخالب الإمامة في حرب ضروس امتدت لأكثر من سبعة أعوام .
يحدث هذا منذ عقدٍ من الزمن بعد أن غابت الدولة التي كانت تشكل همزة الوصل بين الثورة والمجتمع ، واختفى الجزء الأكبر من الجغرافيا التي كانت تحتضن تلك الاحتفالات بصورها المختلفة , تحت رداء الإمامة الجديدة في الشمال ، ناهيك عما بات يعتمل من انفعالات ملتبسة من بعض الجنوبيين تجاه ثورة الرابع عشر من اكتوبر .
إن الحديث عن الثورة في مثل هذه الظروف الصعبة يتطلب مكاشفات تتجاوز ما تخفيه البهجة من أوجاع ، حتى لا يبدو وكأن الثورة قد استقرت في ذاكرة محبطة .
العلاقة بين الثورة والدولة :
بتتبعٍ كاشفٍ للعلاقة بين الثورة والدولة ، نجد أن الدولة ، التي أنشأتها الثورة ، لم تكن قد جسدت على الدوام صورة طبق الأصل للمضامين والأهداف الثورية التي وعدت بها الجماهير ، لكنها استطاعت مع ذلك أن تحافظ على قدر من العلاقة بين الدولة والثورة في صور مختلفة من المنجزات التي غالباً ما كانت تجعل الإحتفال بالثورة ، وخاصة من قبل الجماهير ، عملاً متصلاً بتطلعات الجماهير إلى المزيد من المنجزات التي تعزز السير على طريق الثورة مهما كانت الصعوبات .
أما من جانب آخر ، فلأن سلطة الدولة لم تستقر بيد قيادة منتخبة تجسد روح الثورة التي قامت من أجل الشعب ، فقد بدا للحكام الذين تعاقبوا على السلطة بانقلابات متكررة وصراعات دموية أن الاحتفال بالثورة إنما يذكرهم بفضل الثورة عليهم ، وأنهم إنما يدينون لها في بقائهم حكاماً ، كما أن الثورة ، بسعة أفقها ، كانت تقوم باحتواء كل تلك الانقلابات والصراعات طالما أنها تمت تحت ردائها ، حتى ولو على نحو شكلي في كثير من الأحيان . ولهذا السبب كان معظم من يصل إلى سدة القيادة يتمسك بانتمائه للثورة ليضفي على اغتصابه للسلطة شرعية ما ، ولكنه في نفس الوقت يشعر بغيرة من الثورة بسبب هذا الربط الذي يولد لديه شعوراً بأن هناك من يتربص به من " الثوار" ومن كل من يظهر ولاءً للثورة ، وأن عليه أن يضع حداً لعلاقة سلطته بهذا الماضي الذي يحاصره .
كان هؤلاء "القادة" يعملون على تعظيم "الحدث" الذي أوصلهم إلى سدة الحكم ، وجعله ، من ثم ، رديفاً للثورة ، بل وفي مواجهة مع الثورة في نفس الوقت .
مع الوقت ، أخذت الاحتفالات بذكرى الثورة تركز على المنجز في صورته المادية ، وتتجاهل القيم التي نادت بها الثورة ، وتغض الطرف عن السلوك الذي أصبح يحيط بالمنجز والذي لم يعد معبراً عن روح الثورة وقيمها . وكان أن وظفت الاحتفالات الرسمية لغرض إبراز المنجز المادي للدولة والقائد ، وكذا المحطة التي جاءت به الى السلطة . تجاهلت ، إلى حد كبير ، روح الثورة المتمثل في القيم الثورية التي حلت محلها قيم النظام الحاكم ، والتي راحت تأخذ الدولة بعيداً عن الثورة .
أخذ النظام الحاكم يعيد صياغة الدولة بمضامين تعبر عن طبيعة البنى السياسية والاجتماعية التي آل إليها القرار ، وهي القوى التي جاءت الى السلطة عبر الانقلابات المتكررة ، والتي أخذت عناوين ، تركز في معظمها ، على "اصلاح مسيرة الثورة" ، بينما كانت في حقيقتها إفرازاً لتقاطعات مصالح أخذت تتبلور خارج دائرة المصلحة العامة للدولة التي استهدفت الثورة تحقيقها . وبذلك فقد تحولت هذه المحطات إلى مناسبات كثيراً ما كانت يطغى الإحتفال بها على الاحتفال بذكرى الثورة نفسها .
ولكي لا تبدو منظومة الحكم الجديدة وكأنها قد ابتعدت عن الثورة ، فقد أخذت تعبئ الجماهير على القبول بمصطلح "البراجماتية" أي الواقعية السياسية ، كتعبير ضمني عن أن للدولة شروط مختلفة عن معطيات الثورة .
كان ذلك يعني أن الدولة التي استولدتها الثورة من الصفر قد أخذت تبتعد ، ثم تنفصل عنها تدريجياً في أهم مفاصلها ، وخاصة تلك التي سلبت الدولة صفتها الشعبية والديمقراطية .
والملاحظ أن هذا الابتعاد ، أو الانفصال ، كان غالباً ما يتم بعمليات انقلابية عسكرية ، كما أوردنا أعلاه . ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل تعداه إلى خلق فجوة هائلة مع الجماهير ، ظلت تُملؤ بالأجهزة الأمنية ، والبيروقراطية ، والبوليسية القمعية ، والفساد والافساد ، والاعلام الرسمي البروبوجاندي .. وغيرها من الأجهزة التي راحت تعيد بناء العلاقة على قاعدة السمع والطاعة للقائد الفذ الذي أخذ يحل محل الثورة والدولة .
ومع المدى أخذت الدولة ، بمضامينها الجديدة تعمل على إعادة صياغة الثورة في وعي الناس بمفاهيم حوّلت التمسك بقيم الثورة على أنه "تطرفٌ" يضر بالمصالح الوطنية للدولة ، وأن الثورة إنما هي حالة انتقالية لا تلبث أن تخلي الطريق أمام الدولة ؛ ولكن أي دولة تلك التي تُخلي لها الثورة الطريق !!
إن الانتقال من الثورة إلى الدولة هي مسألة طبيعية ، بل وضرورة حتمية ، حينما يتعلق الأمر بالمركز القانوني والدستوري لمؤسسات الدولة ونظامها المؤسسي ، أي الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية ، حيث يتم صياغة مبادئ الثورة وأهدافها في دستور للدولة تظل بموجبه محتفظة بالمضامين السياسية والاجتماعية والقيمية للثورة ، لكنها وقد انفصلت عن هذه المضامين ، وقلبت لها ظهر المجن ، فقد كان من مساوئ هذه الدولة أن أخذت تفقد جذرها السياسي ، والمتمثل في روح الثورة وقيمها وأهدافها ، مما جعلها تتخبط في صراعات وانقلابات خلُصت كلها إلى إنتاج القائد أو الزعيم الأوحد ليحل بعد ذلك محل الدولة ، في عملية انتقالية مشوهة تمثلت حلقاتها في انتقال مشوه من الثورة الى الدولة ، ثم الانتقال الأكثر تشوهاً من الدولة إلى القائد أو الزعيم ، وهو انتقال غاب معه مشروع الوطن ، ويعكس :
١/ طبيعة التحديات الضخمة التي واجهتها الثورة في مراحلها الأولى ، مما جعل قياداتها ، أو ما تبقى من قياداتها ، تقبل بدولة نصف ثورة ، وأحياناً أقل من النصف . ٢/ هشاشة مؤسسات الدولة التي تعرضت في تكوينها لمساومات ونزاعات واستحواذ ، غالباً ما كانت تنتهي إلى "تكوينات" ما دون الوطنية ، تعبر عن مصالح قوى متناقضة متنفذة سياسياً واجتماعياً ، وكان أن سلمت أمرها دون أي مقاومة للزعيم الأوحد .
٣/ رفض النظام السياسي التعددي بدوافع أيديولوجية متنوعة المصادر ، أخذت الدولة إلى حضن الاستبداد .
يتبع الحلقة الثانية .