الأربعاء 16/أكتوبر/2024
عاجلعاجل

الثورة ، الدولة ، غياب مشروع الوطن وحضور القائد الأوحد ، والكارثة. الحلقة الاخيرة

ما بعد الوحدة : لماذا فشلت دولة الوحدة في تجسيد روح الثورة والانتصار لمشروع بناء الوطن : 

 

 جاءت الوحدة في مايو ١٩٩٠ مستعينة بما تبقى من قيم الثورتين في مواجهة التحديات التي نتجت عن الصعوبات التي واجهت "دولة الثورة" في تحقيق "مشروع بناء الوطن" . 

كان الوضع العام الناشئ عن إعلان السير في طريق تحقيق الوحدة يوم ٣٠ نوفمبر ١٩٨٩ قد أوجد زخماً شعبيا كبيراً ، أُعتقد ، على نطاق واسع ، أنه سيؤدي إلى تخليق ظروف قادرة على إنتاج قدر من الحوافز الكافية لتحريك عجلة الدولة المرتقبة نحو إحياء "مشروع الوطن" الذي كان ، ولا يزال ، الهدف الحقيقي والأسمى للثورتين . 

كان الجنوب قد شهد بعد أحداث يناير ١٩٨٦ محاولات لإعادة بناء فكرة "مشروع الوطن" في جسم دولة جريحة من خلال المراجعات السياسية والفكرية التي تمت على نطاق واسع ، ومعه أخذت مسألة التعددية السياسية والديمقراطية تتصدر نقاشات اللجنة المركزية ومنظمات الحزب وكل مؤسسات المجتمع المدني ، لكن الايديولوجيا الضاغطة بفكرة " الوطن الأكبر" ، كانت أقرب الخيارات للعقل الجمعي الذي ظل يُحْقن بهذه الفكرة باعتبارها المصير لوطن مشترك إسمه "اليمن الديمقراطي الموحد" .  

والحقيقة أن هذه الخطوة ، أي الوحدة السلمية المقترنة بإقامة نظام سياسي تعددي ديمقراطي ، كانت هي آخر الحوافز التي حركتها ما تبقى في الدولتين من علاقة مع الثورتين ، ومعها كان يعتقد أن روح الثورتين التي تجسدت في زخم الانتقال إلى الدولة في الأيام الأولى للوحدة سيستمر ؛ غير أن الأيام كشفت أن مشكلة علاقة الثورة بالدولة كانت قد تعمقت في قلب بنى سياسية واجتماعية واقتصادية كانت قد ابتعدت بالدولة عن الثورتين ، ولم يعد بامكان القوانين الوحدوية التي صيغت في جوانب كثيرة منها بروح الثورتين قادرة على استعادة هذه العلاقة بنخب سياسية مبرمجة على الصراع الذي تتحكم في أسبابه نزعة التسلط ، والارث الثقافي المختل بمفاهيم عملت على مواصلة ليّ عنق التاريخ من خنادق تهيأت فيه للقيام بهذه العملية منذ البداية دون تردد .

لم تستطع روح الثورتين أن تنقذا الوحدة أمام تصلب البنى الجامدة والمتصلبة لمشروع الدولة المكون من مزيج غير متكافئ للدولتين السابقتين ، وكان ما كان من تآمر ، واغتيالات ، وإهدار دم ، ثم حرب واستهتار بذلك المنجز التاريخي وتحويله في نظر الجماهير ، وخاصة في الجنوب ، من "منجز" إلى "تهمة" ظلت تلاحق القيادة الجنوبية حتى اليوم . 

بسقوط مشروع "الوحدة" السلمي في فخ الدولة الهشة التي فشلت في خلق مؤسساتها المستقلة عن السلطة الحاكمة ، والنخب المتنفذة بأرديتها السياسية والقبلية والعسكرية والأمنية ، أخذ الابتعاد عن الثورتين يأخذ صورة جديدة من السير في طريق الاعتماد على القوى المنتمية إلى عهد ما قبل الثورتين . كان ذلك لا يتم بهدف تجسيد دولة المواطنة ، لكنه على عكس ذلك تم بهدف الاستعانة بالماضي لكسر دعوات المطالبة بدولة المواطنة . وشكل ذلك العمل أعلى درجات التخلي عن مفاعلات ما تبقى من حوافز الثورة ، والتي أخذت معها الدولة تسقط بيد هذه القوى من مواقعها ، سواءً القريبة من الحاكم ، أو تلك التي عينت فيها رسمياً ، بكل ما شملته من نفوذ سياسي ، وإمكانيات اقتصادية ومنح مالية ، وشركات ، وحصص ريعية لما في باطن الأرض من ثروات ، وقدرات عسكرية ، ووجاهة اجتماعية ، وفتاوى دينية كفرت كل من يدعو الى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية . 

لم يُسمح للدولة القادرة على استيعاب الجميع على قاعدة المواطنة ، بالتكون ، بل إن مجرد التفكير فيها قد نُظر اليه يومها على أنه تعدٍ على البنى الاجتماعية ونظامها شبه القبلي المتوحش ذي الجذور الضاربة في أعماق "الدولة" . ولذلك لم يكن الاعتماد على هذه القوى ، التي ازدحمت بها مؤسسات "الدولة " بعد حرب ١٩٩٤ ، سوى بمثابة الراهن الخاسر الذي استهدف ، بدرجة رئيسية وعلى نحو خاطئ ، الاستقواء بها لاسقاط المطالب الوطنية التي نادت بإصلاحات منظومة الدولة لتستعيد علاقتها بقيم الثورة وأهدافها على نحو يمكنها من أن تصبح دولة مواطنة لتجنب المزيد من الانهيارات التي لحقت بها منذ الحرب وضرب مشروع الوحدة السلمي في الصميم . 

تسلل الحوثيون من باب إسقاط مشروع الوحدة السلمية ، ومن رغاء المنتصر في الحرب ، والشامتين بالاشتراكي الذي " باع" ، على حد زعمهم ، دولة الجنوب وهرب إلى الوحدة ، واستحق الهزيمة ، وكونوا قاعدة انطلاقهم من تهميش ، بل ورفْض ، "مشروع الوطن" ، وتوظيف أيديولوجيا دينية تجمدت عند مفهوم ملغوم للعلمانية وفصل الدين عن الدولة وتكفير كل من يدعو إلى دولة المواطنة ، واخترقوا النظام من خلال الفجوات التي كشفت عن بنية النظام السياسي من داخله والحسابات المتصارعة التي أخذت تتمحور وتأتلف حول فكرة التوريث ، وهي الفكرة التي أخذت تهشم الأنظمة الجمهورية في بلاد العرب لتنتقل إلى اليمن ، حيث كان ينتظر البلاد فخ تاريخي كبير كفيل باسقاط الدولة كلها . و إلى جانب ذلك كان الجنوب ، الذي جرت حرب ١٩٩٤ على أرضه وأخمدت روح الوحدة التي كانت تهتف لصنعاء قبل عدن ، يشتعل بمشروع فك الارتباط ، ومعه الهجوم على الدولة الوطنية الجنوبية التي ذهبت الى الوحدة وترديد ما كان قد أطلقه نظام صنعاء بالبيع والهروب ، تصاحبه مطالبات سياسية بمراجعة " الفخ الثوري الأكتوبري" الذي قيل أنه " يمنن الجنوب العربي" ، فيما يشبه الاستقواء بهذا الوضع الذي آلت إليه الدولة والثورة على إنتاج أدوات من داخله لدفن الثورة من الذاكرة الجمعية بعد أن دفنت "دولة المواطنة" في أنقاض آخر أهدافها الكبرى " الوحدة".

ومثلما دعمت الثورتان بعضهما في المسارات الأولى لقيامهما بخلق الحوافز الوطنية المتبادلة ، فإن نقيضيهما التاريخيين ، اليوم ، ينتجان على نحو تلقائي ديناميات مشتركة تعمل على دفن الثورتين من خلال القضاء على كل ما يذكر المجتمع بهما وبقيمهما وأهدافهما .

إن تمسك الناس ، وخاصة هذا الجيل من الشباب ، بثورتي سبتمبر وأكتوبر يوفر البيئة الوطنية والسياسية والإجتماعية القوية لاستعادة الدولة بالانطلاق من هذه الحقيقة التاريخية التي تقول إن ثورتي ستمبر واكتوبر لم تكونا حدثين طا رئين في حياة اليمن بقدر ما كانتا محطتين لتحول حضاري لا رجعة عنه ، وإن كانتا قد تعرضتا لخيانات ومؤمرات ، من أي نوع كان ، فإن ذلك لا يحط من قيمتهما التاريخية في مواصلة التمسك بهما والاسترشاد بأهدافهما ، والتعلم من الأخطاء التي صاحبت المرحلة الماضية ، وخاصة تلك التي فصلت الدولة عن الثورة بإهمال فكرة بناء الوطن ، الهدف الأسمى لكل ثورة تستحق أن يطلق عليها ثورة . 

إن استعادة روح الثورتين لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال :

١- الانتصار في معركة استعادة الجمهورية ، وبناء الدولة القادرة على انتاج "الوطن" بالمفهوم الذي يكون فيه الشعب هو مالك السلطة ومصدرها ، والمعيار الحقيقي للسير الجاد نحو تحقيق ذلك الهدف هو استعادة الدولة من أيدي وكلاء إيران الحوثة بقوة التمسك بالمرجعيات الثلاث الوطنية والاقليمية والدولية .

٢- حق الشعب في تحقيق خياراته السياسية دون تدخل بأيٍّ من الأدوات التسلطية القديمة التي لم تورث البلاد سوى هذه الكارثة .

لقد كان الحوار الوطني ، الذي انتجته حركة التغيير الشعبية السلمية ، هو الطريق الأمثل لتحقيق توافق سياسي يجنب اليمن هذه الكارثة ، لولا أن "مخرجات" الدولة القديمة المتنفذة ، ونظامها التسلطي ، قد أفشلا هذه العملية التاريخية ، ومهدا الطريق للانقلاب عليها بتلك المسرحية الهزيلة التي لعبها الحوثي ، لتصبح في نهاية المطاف أكبر خيانة تتعرض لها الثورة . 

لقد شرحت ذلك بالتفصيل في كتاب " عبور المضيق " أثناء مؤتمر الحوار ، وخلصت من ذلك الشرح التفصيلي إلى النتيجة التي تلخص هذه العلاقة بين الثورة والدولة وغياب " مشروع الوطن " ، وهي موضوع هذه الحلقات :

" لا أحد يستطيع أن يهبنا "وطن"، ما لم تكن الحوافز للوصول إليه أقوى مما في معادلة الحياة من تحديات ، وما لم نكن مستعدين للعمل الجاد والتفاهم والتعايش من أجل الوصول إليه .آباؤنا وهبونا بلاداً - جغرافيا - نعيش عليه ، أما تحويله إلى "وطن"، فقد بقي مهمة نتوارثها ، وجاءت فرصة تحقيقها . هذه الفرصة التي يجب أن لا تهدر فوق ما أهدرنا من فرص " .

تنتصر الثورة ،أي ثورة ، بإنجاز مشروع الوطن ، وما عداه فإنها تحتاج إلى"ثورة في الثورة" بتعبير ريجيس دوبريه .