الخميس 21/نوفمبر/2024
عاجلعاجل

الراحل "خالد الحيدري".. رجل متعدد المواهب والنجاحات

في كثير من المجتمعات، هناك أشخاص مبدعون، يمتلكون عقليات ناضجة وأفكار خلّاقة، بعضهم يحالفهم الحظ ويجدون من يأخذ بأيديهم ويدعمهم لتطوير أفكارهم ومشاريعهم، وهنا يأتي دور الحكومات الوطنية الناجحة والفاعلة، التي للأسف ما تزال بلادنا تفتقر لها ، وهناك مبدعون يجتهدون ذاتيًا بحسب إمكانياتهم، ويحققون نجاحات ولو محدودة الأثر على مستوى عائلاتهم ومحيطهم البسيط، وفي المقابل، ثمّة مبدعون تُدفن مواهبهم وتتعطّل قدراتهم ويصابون باليأس والإحباط، نظرًا لافتقارهم للدعم الذي يحفزهم على الاستمرار والإبداع والعطاء.

"خالد شمسان الحيدري" (رحمة الله تغشاه)، من الشخصيات الإبداعية والناجحة ومتعددة المواهب، التي شكّلت إضافة نوعية في قريتنا الضياء بمديرية سامع جنوبي تعز، وهو رجل معاق في يده اليُمنى، لكنه صاحب عقلية ناجحة وتنموية، ومن صنف المبدعين الذين اجتهدوا بأنفسهم دون انتظار دعمًا من أحد، عرفناه يفكر خارج النص ويتخطّى المالوف داخل المجتمع، واستطاع أن يترجم الكثير من الأفكار واقعًا وصنع فارقًا إيجابيًا ملحوظًا وملموسًا.

بنى خالد بيته منعزلًا نسبيًا عن مركز قرية الضياء، بمسافة نصف ساعة على الأقل مشيًا على القدمين في المنطقة الجبلية نزولًا وصعودًا. في مطلع 2016 زرت المبدع خالد في بيته، تغديت في بيتنا وذهبت برفقة الأستاذ عبدالرؤوف (استشهد في 16 أغسطس 2016 بجبهة الصلو وهو يواجه الحوثيين)، ومعنا الصهير معاصر، وصلنا مرقهين، قدّم لنا خالد وجبة خفيفة تعويضية جراء تعب المسافة، وخلال المقيل، كانت نقاشاته معنا تدور حول أفكار إبداعية وتنموية على رأسها مشروعه الذي يعمل عليه، المتمثل باستخراج الغاز المنزلي من فضلات المواشي، كما تحدثنا عن مشاريع مهمة تفتقر لها قريتنا الضياء التي ما تزال حتى اليوم بعيدة عن أعين السلطات الحكومية والمنظمات.. خلال المقيل رأيت في الديوان بقايا أجهزة راديو وأشياء أخرى، ومواصير في أعلاها ما يُشبه إريالات الراديو، استفسرته عنها، فأجاب أنه يحاول أن يقوّي تغطية الجوال الضعيفة جدا داخل بيته وفي محيطها، وحدثنا أن يأمل أن ينجح في توليد كهرباء لمنزله من الرياح.. وعندما أذّن لصلاة العصر، سار بنا خالد لأداء الصلاة في الغرفة المجاورة، التي اتضح لي أنه خصصها كمسجد، مفروشة بالسجاجيد وفي جدارها رسمة تشير إلى اتجاه القبلة، وفي النافذة مصحف كبير.

حتى لا نطيل الحديث عن تفاصيل كثيرة، يمكن أن نجمل إبداعات وإنجازات ومشاريع ونجاحات الراحل خالد الحيدري، فيما يلي: 

- استخرج الماء من باطن الأرض جوار منزله، حتى أصبح خلال سنوات من أهم مصادر مياه الشرب لقريتنا خلال الشتاء، وهذا بحدّ ذاته خيرًا كثيرًا وعظيمًا، ولن أبالغ إن قلت إن الغالبية المطلقة من أبناء الضياء استفادوا منه.

- استطاع خالد أن يستغل محيط منزله أحسن استغلال، وجعله أشبه بالبُستان (رغم أنها مساحة متواضعة)، حيث زرع أشجار التفاح والعِنب والرُمان والفِرسك والزيتون والبُن وفواكه أخرى.. وغرس العديد من الخضروات، مثل البطاط والبصل والبقل والثوم والدُّبا وحتى الكرث، وخضروات أخرى.. كما أنه زرع أشجار البن، وعدد من البقوليات، كحالة فريدة على مستوى العزلة. 

- ومن الإنجازات الإبداعية لخالد، أنه نجح في استخراج الغاز من مخلفات المواشي (الأبقار والأغنام).. حاول كثيرًا، ومع كل محاولة فاشلة لم ينتج عنها اشتعال الغاز، كان يطوّر من أفكاره أكثر ويجري تجارب جديدة، حتى نجح، وأصبحت شولة البيت تشتعل من الغاز الذي أنتجه من مخلفات المواشي.

- ليس ذلك فحسب، فالرجل كان مهندسًا أيضا، رغم أنه لم يدرس الهندسة، بل بالخبرة، الذي يخرب تلفازه أو يتعطّل الراديو تبعه، أو حتى الجوالات ذات الزرارات، وأشياء أخرى، يذهب بها إلى المهندس خالد الحيدري، نجح في إصلاح الكثير منها، وبعضها يعجز معها نظرًا لكُبْر الخلل أو عدم تعرُّفِه عليه، فيحول أصحابها إلى مهندسين في المدينة.

- كان خالد شمسان بناءً ماهرًا، رغم إعاقته، ومع ذلك لم يكتفِ بمهنة البناء، بل تعلّم خياطة الثياب الرجالية والنسائية، واشترى مكائن خياطة، ثمّ علّم كافة أفراد عائلته، وأصبحت العائلة بأكملها تجيد الخياطة، بل أصبح لديه معمل خياطة في المنزل، وفي المواسم، شغّل خالد عدد من نساء الضياء اللاتي يُجدن الخياطة، وتوجّه إليه الكثير من أبناء العزلة لشراء الثياب، بدلًا عن الذهاب إلى المدينة. 

توفي خالد شمسان في 2018، بعد أن أكمل العقد الرابع من العمر، إثر معاناة مع مرض تسمم في الكبد، وبحسب المعلومات فإن التسمم أصابه جراء لمسه لبقايا الصاروخ الحوثي الذي سقط في جبل عرعر الذي تتكئ عليه قريتنا، مساء التاسع من أغسطس 2017، فعقب الانفجار الضخم، سارع خالد شمسان ومجموعة من الشباب إلى مكان سقوط الصاروخ وأخذ خالد يقلّب بقاياه بيديه، وعندما عاد تناول قطعة صغيرة من الخبز ونسي أن يُغسل يديه من آثار بقايا الصاروخ ثم بعد أيام بسيطة بدأ يعاني ليتضح أنه أصيب بتسمم في الكبد، وفق مصادر مقرّبة. 

ورغم وفاة خالد شمسان، إلا أن الناظر لأولاده وأفراد أسرته، يفهم جيدًا أن أفكاره الإبداعية والتنموية لم تمت معه، لم تدفن بجانب جثته، فهي موجودة بنسبٍ لا بأس بها ومتفاوتة لدى أولاده، فابنه الأكبر الشاب "يونس" تظهر عليه الكثير من صفات وتفكير أبيه، فمن جانب تمكّن من تطوير معمل الخياطة في البيت، ثم فتح، بالشراكة مع أحد الرائعين من أبناء المديرية، محلًا للخياطة في المدينة، وفي الجانب الآخر تظهر لديه اهتمامات إبداعية نرجو أن تتطوّر، كما نأمل أن يتم استنساخ مشروع توليد الغاز المنزلي من مخلفات المواشي، في العديد من المنازل.