قرار محكمة الجنايات الدولية الأخير أرسل إشارة جيدة من داخل حضارة غرقت في الانحطاط. الانحطاط هنا هي النبوءة التي قدمها ميشيلس، المفكر السياسي، في العام ١٩١١ وهو يتخيل حدود وإمكانيات النسخة الغربية من الديموقراطية، وهي نسخة تفضي - عبر طريق معقد- إلى الانحطاط والافتراسية.
ألمانيا، في سياق تاريخي معقد، كانت من أكثر الداعمين للمحكمة. بالأمس قال المتحدث باسم المستشارية إنه يصعب تخيل تعاون ألمانيا مع المحكمة الدولية حين يتعلق الأمر يإسرائيل. لن يُسمح بوجود أي جسم دولي أعلى من إسرائيل، قال مسؤول أميركي رفيع قبل أشهر.
القوة تذهب بعيدا ويعاد توزيعها أفقياً، وعلى السلوكيات الغربية أن تستجيب لهذا التغير الجديد، وفقاً للنصيحة التي قدمها محبوباني، المفكر السياسي السنغافوري. تبالغ كيانات غربية كبرى، كألمانيا وأميركا، في تجاهل الأسس الأخلاقية للعيش المشترك، أعني في لحظة حرجة على الغرب نفسه، هو فيها في مسيس الحاجة لتثبيت نظام "صديق" قبل أن تذهب الأمور شرقا وجنوباً.
ألمانيا تعاني على كل الصعد، فقدت الطاقة الروسية الرخيصة، ما ترك أثراً بالغاً على قطاع الصناعات، خصوصا البتروكيماوية. تخسر، على نحو متزايد، السوق الصينية، وتستعد لحرب اقتصادية مع نظام ترامب. أخلاقياً فقدت الشيء الكثير، بل الكثير جداً، وتورطت في معاداة السامية (النسخة العربية من السامية) على نحو فج، حد إصرارها- وقضاتها يعودون من بهو محكمة العدل الدولية بعد معركة مع نيكاراغوا- على مواصلة دعم إسرائيل أياً كان ما تفعله. فالمدنيون الذين يختبىء خلفهم الإرهابيون يفقدون حقهم في الحماية القانونية، حد تصريح وزيرة خارجيتها من قاعة البرلمان.
قرار لاهاي وضع العالم الغربي في مأزق صعب، فتلك المؤسسات هي في الأصل هراوات غربية ضد الإنسان الأدنى. قال كريم خان، رئيس المحكمة، إن مسؤولين غريبين رفيعين أخبروه، صراحة، بذلك: ضد الإنسان الأدنى. الجيد في إشارة النجاة الصادرة من لاهاي أن دولاً كثيرة من الشمال العالمي أبدت استعداداً للتعاون مع القرار. بعض ذلك "التعاون" جاء بسبب صراعات سياسية داخلية بين أحزاب الوسط الحاكمة والأحزاب المتطرفة، أو النيو-فاشيزم. هو قرار، إذن، ضد الأحزاب المتطرفة في إسرائيل وليس ضد الدولة الإسرائيلية (الديموقراطية، التي تشبهنا). ليكن، لم لا.
لا تملك ألمانيا طريقاً للخروج، قالت الاستشارية في إفادتها إن علاقة ألمانيا الخاصة بإسرائيل، استنادا إلى تاريخها الخاص، تحول دون أن تقف إلى أي جانب قد يضر بإسرائيل. ما هي العلاقة الخاصة؟ قتلت النازية ملايين اليهود! ولكنها، أيضاً، قتلت من الروس ٢٦ مليوناً. وها هي الدولة الألمانية الملتزمة بمسؤوليتها التاريخية تمنح الأوكرانيين السلاح لقتل المزيد من الروس!
لم يتحدث أحد من الآباء المؤسسين لألمانيا ما بعد الحرب عن تلك المسؤولية التاريخية تجاه إسرائيل، ناهيك عن مشاركتها في ارتكاب إبادة بشرية يراها الكتاب المقدس ضرورية. هذا ما رصده باحث ألماني، وأستاذ في التاريخ السياسي، في كتاب بعنوان Staatsräson
" أو المصلحة الألمانية العليا.
هذه العقيدة الانتحارية جديدة كلياً على السياسة الألمانية ولا يجد لها الباحث أصولاً في التاريخ السياسي الحديث لألمانيا قبل ٢٠٠٨، أي قبل وصول ميركل (الإنجيلية، ابنة القس الإنجيلي) إلى سدة الحكم. في حياتها كمستشارة زارت إسرائيل ثمان مرات، بينما بلغت عدد زيارات مستشار ألمانيا لإسرائيل منذ تأسيس الكيان وحتى ٢٠٠٨ أربع زيارات!
ثمة عطب كبير في برلين، أما رعايتها للهمجية الإسرائيلية فهي مجرد عرض من أعراض "نهاية المعجزة" كما يرصدها الباحث الألماني فولفغانغ مونشاو في كتاب بعنوان "الانهيار، نهاية المعجزة الألمانية". ألمانيا في سقوط حر، يقول الباحث، ولا يعلم أحد ما هو شكل القاع ولا عمقه.
يغطي قرار لاهاي ظهور المثقفين والاكاديميين الذين عجزوا عن الكلام بسبب هراوة معاداة السامية. هذا أمر جيد، ولأول مرة يتحدث راديو ألمانيا بالأمس، على طريق الإدانة، عن بلوغ عدد المثقفين العالميين الداعين للقطيعة مع إسرائيل ثقافيا (كرفض ترجمة أعمالهم إلى العبرية، مثلا) إلى ٦ آلاف، منهم حملة نوبل في الآداب. قبل ذلك لم يكن هناك سوى حفنة من كارهي اليهود لأسباب ثقافية ودينية!
قرار لاهاي هو غطاء أخلاقي، لنقل غطاء أمني أيضاً. فقد شاهد العالم ما فعل رجال ونساء الكونغرس الأميركي برؤساء الجامعات الكبرى لمجرد أن عجزوا عن إيقاف المظاهرات الطلابية. قيل آنذاك، ونحن نتذكر، أنها معاداة خطرة للسامية، وأنها ستجر على البلاد الوبال لأن"الرب يعادي من يعادي إسرائيل". الجملة الأخيرة، في السياق نفسه، وردت على لسان رئيس لجنة شكلها الكونغرس، أعلى هيئة تشريعية في العالم "العلماني".