في أحد أيام عام 1986م (لم أعد أتذكر اليوم والشهر حاليًا!) أثناء الدراسة بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال متابعة الأخبار التليفزيونية (الحية)، ثم الصحف يَومها، في إطار الوطن الأمريكي الواحد، وفي منطقة "منهاتن" وسط مدينة نيويورك بولاية نيويورك، حدث انطفاء للكهرباء بصورة مفاجئة، ولمدة 17 دقيقة فقط.. لستُ بصدد ذكر أسباب ذلك الانطفاء المُفَاجئ والنادر، والذي ظل حديث القنوات التليفزيونية وغيرها على مدار الساعة يومها.. وإنما سأقتصر بحديثي هنا على ما حدث خلال فترة انقطاع الكهرباء التي لم تتعدَّ سبع عشرة دقيقة، بسبب غياب الدولة أو غياب نظامها الذي يُمثلها، وغياب القيم والأخلاق والوازع الديني أيضًا، لدلالة ذلك بما سأذكره لاحقًا!
فـ"منهاتن" تعتبر كما هو معروف عنها أمريكيًا وعالميًا، مركز المال والأعمال والبنوك والشركات الأمريكية والدولية والمعارض التجارية المتنوعة الضخمة، وناطحات السحاب، وغير ذلك.. ولذا، فإن انقطاع الكهرباء في المساء فيها ليس حَدَثًا عاديًا! وهكذا، عندما غاب النظام الرسمي عنها بسبب الظلام إلا جزءًا يسيرًا لأضواء السيارات واجتهادات فردية، إضافة إلى غياب القيم والأخلاق والوازع الديني لدى بعض القاطنين بها، بخاصة من بعض العاطلين عن العمل والعائشين على هامش المجتمع ممن ينتظرون بعض الفُرص المتاحة لهم لهدف البطش والنهب، ليأتي انطفاء الكهرباء فرصة لهم، إذ أدى ذلك إلى مقتل العشرات وسرقة بعض البنوك والمحلات التجارية، وغير ذلك من سرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه، إضافة إلى حدوث حرائق مفتعلة واصطدام سيارات وفوضى عَارِمة لم تشهدها نيويورك من قبل كما قرأت، حتى ولو أن جزءًا من ذلك كان يحدث بمدينة "نيويورك"، بخاصة بعض المناطق التي يقطنها "السود"، في تلك الفترة، ودون انقطاع الكهرباء (وإن تحسن الأمن في ما بعد حسب علمي)، إلا أن ذلك لم يصل إلى نسبة 10% مما حدث بسبب انقطاع الكهرباء، وكل ذلك بسبب غياب النظام، ثم -وهو الأهم- بسبب غياب القيم والأخلاق والوازع الديني لدى من قاموا بتلك التجاوزات المَشينة!
إن مناسبة التذكير بذلك الحدث، هو ما أود قوله هنا وبكل إيجاز ممكن عما بات عليه الوضع في مدينة "تعز" التي أصبحتُ ساكنا بها" مُفَضلًا لها عما عداها من المدن اليمنية المُحررة، رغم كل ما ومن فيها!
وقد يغضبُ مما أطرحه هنا بعض الأعزاء من المعنيين في تعز، بخاصة من بعض "عِلْيَة القوم" بوجه عام" ثم بعض الموظفين الراضين بالوضع القائم وغيرهم من المحسوبين عليهم! مَعَ أنني لا أهدف مما أطرحه هنا غضبهم، بقدر ما أهدف إلى لفت انتباههم وتذكيرهم بما لا يجهلونه! ثم، حرصًا على مكان ومكانة تعز، وتقديرًا لدور بعض أبنائها في تطهيرها من الغزاة (الحوثيين)، والذين كان معظمهم لا يجيدون حمل السلاح فضلًا عن استخدامه، ليصبحوا شِبه خُبراء فيه عندما دعت الحاجة إليه من أجل تحرير الأرض والعرض بعد أن ظل "القلم" هو سلاحهم الوحيد كما هو حال ساكني مدينة "تعز" دومًا، لولا الاضطرار لحمل السلاح! ولذا، حرصًا على دور هؤلاء الرجال الذي يصعب بل يستحيل نكرانه، لا بد من بعض النقد الهادف والمكاشفة عن بعض التجاوزات التي باتت غير مقبولة في مدينة "تعز" التي ضحى من أجل تحريرها أُولئك الرجال الأوفياء، وتقديرا لدورهم أيضًا.
لذا، يمكنني القول إن الدولة، أو النظام الذي يُمثلها بمدينة "تعز" يكادُ يكون مَعدومًا! أو بكلمة شِبه مُؤدبة (غائبًا)!
وفي نفس الوقت، لا بد من بعض الإنصاف، لبعض المرافق الحكومية بمدينة "تعز"، فالأمن أحيانًا يُحقق نجاحات لا يُستهان بها حسب القراءة والمتابعة، رغم وجود بعض التجاوزات الأمنية الأُخرى! وكذلك وجود نجاح في جزء من سلطة "القضاء" العُليا ونيابة استئناف محافظة تعز، حسب المعرفة الشخصية، ثم إدارة الجوازات والجنسية التي تؤدي دورًا استثنائيا بحق، ونجاحات لا يستهان بها، بخاصة مع كثرة المراجعين الذين يَفِدون من مختلف محافظات الوطن، بل من محافظات مُحررة وفيها إدارات للجوازات، لكن الكل يُفضل القدوم إلى جوازات تعز لقطع جوازات سفر، وهذا حسب المعرفة والمُشاهدة والتجربة.. وقد تكون هناك دوائر ومكاتب أُخرى جيدة، ولكنني لم أتعامل معها.. ومجمل القول إن مُعظم الخدمات من كهرباء وماء وصحة تكاد الدولة شبه غائبة عنها! ولو بحدود الإمكانات المتاحة، وهناك تكديس "للقمامة" وأسواق "القات" المُنتشرة بمختلف شوارع مدينة "تعز"، دون ضوابط والبسطات العشوائية، وغير ذلك.. فعدم أو غياب الإشراف على مثل هذه الجوانب وعلى أداء بعض الخدمات الموجودة مع ضآلتها وغير ذلك مماله صلة مباشرة بحياة المواطِن باتت بوضعها المزري ماثِلة للعيان!
وماذا لو قلتُ للقارئ لهذه "الدردشة" إن وُجد، إنني قررتُ أن أتجول بالسيارة ببعض شوارع وأحياء وأزقة "تعز"، فظللتُ أعدِّد المطبات الصغيرة والكبيرة التي مررتُ عليها لتصل إلى 367 مطبًا، وَجُلها غير رسمية، وهي بالطبع ليست كلها وسط المدينة! ومعظمها إن لم يكن كلها لا داعي لها أصلًا! مع ما يؤدي وُجودها إلى بعض الحوادث خاصة حينما يجدها بعض السائقين بصورة مفاجئة، وهو ما حدث لي شخصيا ببعضه!
أتذكر وأنا أسطر هذه الأحرف زيارة فخامة الرئيس لمدينة "تعز" حينما قامت قيادة السلطة المحلية بتنظيف المدينة ورفع المخلفات والعشوائيات وغير ذلك من نظافة وتنظيم غير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية!
ولأن فخامة الرئيس غير غريب عن "مدينته" التي عمل فيها وعرف كل ما ومن حولها، واكتشف بحاسته السادسة أن ما شاهده خلال جولته بالمدينة في يوم زيارته وما يعرفه عنها قبلًا، تأكد أن التحسن الطارئ ليس لأجل المواطن (العادي) بقدر ما هو لأجل المواطن "الرئيس!"، بدليل أن ذلك التحسن انتهى بعد الزيارة بيومين أو ثلاث، لتعود تعز إلى حياة العشوائية التي تعودت عليها في ظل قيادتها الحالية.
ولذا، كان الرئيس واضحًا في خطابه الذي ألقاه بحضور قيادة السلطة المحلية نفسها، إضافة إلى مختلف شرائح مجتمع تعز حيث أعطى السلطة المحلية مهلة لا تتعدى الستة الأشهر، لتظل تعز كما وجدها يوم زيارته إن لم تكن أفضل..! مع توفير مختلف الضروريات الممكنة وفي حدود الإمكانات المتاحة أو كما قال فخامة الرئيس بخطابه رعاه الله وأعانه.
ولنذكر هنا مشكلة كبيرة، بات يعاني منها الجميع، وقد تكون من أهم الدوافع لتسطير هذه "الدردشة" أعني "المُرور" أو ما له عَلَاقة به، وفي مقدمة تلك المشكلة أو المَشَاكل المتصلة بالمرور "الموتورات" أو الدراجات النارية التي باتت تمثل أرقًا وإزعاجًا لا يطاقان! بل باتت هي من أهم أسباب الحوادث بسبب كثرتها وَعدم انضباطها!
والغريب، مع أنه لم يَعُد يُوجد غريب باليمن حاليًا حتى الشيطان: "الحوثي!"، أن محافظة عدن منعت "الموتورات" إلى درجة قيام "السلطة المحلية" بحرق بعضها بسبب عدم استجابة مالكيها لتنظيم الدراجات النارية أو الموتورات التي قامت السلطة المحلية بعملها، وما سلم منها، انتقل مالكوها لمواصلة العمل بها إلى مدينة "تعز"! وهو ما تكرر المنع بمدينة "مأرب".. مأرب الخير والعَطَاء والملجأ الآمن للهاربين من بطش وجرائم "الحوثة"، وهي المحافظة التي حباها الله بمحافظ من أبنائها، يعشقها حدًا لا يُوصف! ليكون ذلك العشق المصحوب بالرغبة في بنائها عرضًا وجوهرًا، من أهم أسباب ما وصلت إليه "مأرب" اليوم من تطور وبناء وأمن واستقرار، رغم كل ما ومن حولها! وذلك، أعني العِشق بالذات، قد يكون ما باتت تفتقر إليه تعز اليوم! ولأن الشيء بالشيء يُذكر كما يُقال، أتذكر زيارتي لمأرب عام 2003م، برفقة دولة رئيس الوزراء الأسبق عبدالقادر عبدالرحمن باجمال -رحمه الله- وكان فيها شارع وحيد شِبه تُرابي، لأتفاجأ عند زيارتي لها بعد خروجي من سجن الأمن الحوثي، نهاية عام 2019م، بما شاهدتُ من تطور وأمن وأمان، وربما وحسب متابعتي لها عن بُعد تكون قد حققت المزيد من التطور والنماء خلال السنوات الخمس التي تفصل بين زيارتي الثانية لها واليوم! والأغرب وليس الغريب أن وجود العنصر "التعزي" في مأرب بمختلف تخصصاته، كان له الدور الأكبر في تطور مأرب من كل الجوانب! بينما في تعز رأس العُنصر التعزي الذي في مأرب، وهو من يقوم بإدارة تعز اليوم العليا والوسطى والصغرى مدينة ومحافظة، غير قادر على أن يُحقق جزءًا يسيرًا مما حققه شقيقه وابن محافظته بمأرب، وفي حدود الإمكانات وما ذلك إلا لعدم وجود القُدوة في قمة السلطة الحالية بتعز مدنيين وعسكريين وأمنيين، بجانب أسباب أُخرى قد يجهلها أمثالي! حتى باتت المقارنة بين هنا وهناك شَبه ظالِمَة!
و: "ما كل من طلب المعالي نافذًا
فيها ولا كل الرجال فُحُولا"!
الشاهد أن مدينة "مأرب" التي منعت "الموتورات" دون تنظيمها، بدأ بعض المالكين لها القدوم إلى تعز أيضًا، حيث الفوضى غير "الخلاقة" لمواصلة العمل بها، حتى أصبح عددها بمدينة "تعز" يقرب من عدد المواطنين أنفسهم!
ودون أن أنسى القول هنا إن بعض وربما معظم مالكي "الموتورات" أو الدراجات النارية في تعز، حياتهم وحياة أُسر بعضهم المعيشية تأتي من دخل العمل الضئيل بها، فأنا لا أدعو إلى منعهم دون مُراعاة هذا الجانب! وقبل التفكير الجاد والفاعِل بالبديل، ووضع الحلول المُناسِبَة، والتي منها وضع نظام صارم وفاعِل قابل للتنفيذ على كل من يرغب بامتلاك وسِواقة "الدراجات النارية" بدلًا من الفوضى السائدة، على الأقل للتقليل من حجم كثرتهم وازعاجهم وسواقة وتجاوزات بعضهم العَشوائية، مع أن التجاوزات باتت تتعدى الدراجات أو الموتورات إلى "الباصات"، بخاصة مع كثرتها ووقوفها المُفاجئ دون ضوابط وهو ما يتكرر من بعض السيارات الخاصة والعامة، وإلى درجة سواقة البعض ببعض الشوارع عكسيًا!
ولذا، أعتبر "المرور" وكل ما له علاقة به في مقدمة غياب الدولة أو النظام الذي يُمثلها فيه!
قد أكتفي هنا بما قد سردتُه آنفًا، والذي قد يُعَد جزءًا من كل وغيضًا من فيض بما يخص غياب "الدولة" عن بعض الخدمات والمرافق وإدارة وتنظيم الموجود، وبما قد أوجزتُه هنا، والذي رُغم هذا الغياب للدولة غير المُبرر، إلا أن المواطن بات يتعايش معه ولو على مضض، وَيُحاول يُكيف ذاته مع كل ما ومن حوله، بل يحاول أيضًا أن يُصلح ما قد يُفسده غيره مما يُشاهده كتعويض عن غياب الدولة وَمَهَامها!
وبالطبع قد لا أكون مع من يقول إن السلطة المحلية مدنية وعسكرية وأمنية في تعز غير معنية كثيرا بتحرير ما تبقى من محافظة تعز وبفتح الحصار عنها، بحجة الرغبة باستمرار الوضع القائم لأهداف استمرار الارتزاق على حساب المواطن بالدرجة الأولى، مع أن المواجهات العسكرية مع بعض المليشيات الحوثية والمتحوثين ببعض جبهات تعز مستمرة، كما أعرف بعض المرابطين ببعض الجبهات القريبة من مدينة تعز الذين يصرون على تحقيق أهداف الوطن بتحريره كاملًا من الحوثة رغم حياتهم وظروفهم الصعبة! وإن كنت أعتقد هنا أن كل شي بات ممكنا!
وفي كل الأحوال، لنعد إلى جوهر موضوع هذه "الدردشة"، والذي يمكن القول بعد كل ما سبق ذكره وبكل وُضُوح هنا عن غياب الدولة أو نظامها الذي يُمثلها عن مدينة "تعز" ببعض مرافق المدينة الخدمية وغيرها، ودون الانتقاص من أداء بعض المرافق الأخرى كما قد أشرتُ بما سبق من هذه "الدردشة"، وهذا هو ما يؤكد لكل ذي "لُب" أن مدينة "تعز" باتت تعيش اليوم بحماية ما تبقى من قيم وأخلاق ووازع ديني وهو الأهم لدى بعض بل معظم أبنائها وتلك هي التي تحمي تعز ومن في تعز وإلى حَدٍّ كبير وهي نِعمة كبيرة لابد أن نحمد الله ونشكره عليها.
ولنتخيل ماذا لو لم توجد هذه العوامل الإيجابية ببعض النفوس والعقول في تعز، إضافة إلى غياب الدولة أو النظام الذي يُمثلها! أجل، ماذا لو غاب الأمرين معًا، كما حدث بمنطقة "منهاتن" وسط مدينة نيويورك كما قد أوضحتُ ذلك في بداية هذه "الدردشة"، وكانت من الدوافع والأسباب لكتابة هذا العَتَبْ!
كم يا ترى سيكون عدد القتلى والجرحى وحجم السرقات والعبث بمدينة "تعز"؟! بخاصة مع غياب "الكهرباء" كلية في شوارعها وأزقتها غالبًا! مع الفارق الكبير جدًا جدًا بين هنا وهناك! ولذا، حينما سُئلت ببعض "الفضائيات" كيف تعيش تعز اليوم؟! أجبته برحمة الله ثم باستمرار وجود ما تبقى من قيم وأخلاق وعقيدة بمعظم أبناء تعز، وتلك لَعمري هي التي باتت تحمي تعز؛ مدينة ومحافظة!
ثم، أما بعد..
ربما أجدُني اليوم ونادرًا ما أفعل، أكتب عن أوضاع محلية خَدَميَة بحتة ولو مؤقتًا! غير مرتبطة بأوضاع عربية ودولية ولا بماله علاقة بالصراع القائم بيننا، أعني "الشرعية" وبين "أنصار أنفسهم!" كما قد تعودتُ أن أكتب! وما ذلك إلا لحبي لتعز ولمن في تعز خاصة عندما أتذكر بعض ماضيها القريب! ثم لرفع العَتَبْ، بل قد أعتبر ما اكتبه هنا بمثابة براءة للذمة، وأداءً للواجب، وصونًا للمستقبل، ثم عِظة وعبرة لأجيالنا اليمنية القادمة.
"وما قتلتني الحادثاتُ وإنما
حياة الفتى في غير موضعه قتلُ"
والمعنى في بطن الشاعِر كما يُقال!
تعز - في 21/12/202 م