شهد سبتمبر، 2021، حدثين هامين على صعيد السياسة العربية. إذ أقدم الرئيس التونسي قيس بن سعيّد على إلغاء الدستور وحل البرلمان، مسدلاً الستار على أنضج تجربة ديموقراطية عربية أسهم الإسلام السياسي/ الإسلاموية الجديدة [Neo-Islamism] في تأسيسها. غير بعيد عن تونس، في العام نفسه، حصد حزب العدالة والتنمية المغربي- إسلام سياسي- هزيمة تاريخية مع إعلان نتيجة الانتخابات إذ هبطت حصّته البرلمانية من 125 مقعداً تحصّل عليها في انتخابات 2016 إلى 13 مقعداً وحسب. أعاد الحدثان إلى الواجهة ذلك النقاش القديم حول زوال الإسلام السياسي من المنطقة العربية، النبوءة التي تجترها منصات النقاش منذ خمسينات القرن الماضي: وفيما يبدو فإن التيارات الإسلامية تملك متانة بنيوية تجعلها مقاومة للفناء وقادرة على إعادة إنتاج نفسها حتى قبل أن تنضج الظروف، كما يلاحظ محمد الدعداوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوكلاهوما.
كتب الكثير عن التيارات الإسلامية، وغالباً ما كانت الكتابة تخدم دوافع الانتقام أو لصالح أنظمة الحكم لا البحث العلمي. في نهاية المطاف بقيت التيارات الإسلامية، من الجهادية إلى السياسية، خارج حقل الدراسة الأكاديمية، وتركت المسألة المركّبة للمكايدة الإعلامية والدعائية المؤدلجة.
في الشرق الأوسط الغامض والمعقد لا يستقرّ شيء على حاله، لا السلام ولا السياسة ولا النبوءات. كما لو أن ديناميكا الاجتماع والسياسة فيه تدفع الأمور لتمضي في شكل دائرة لا على هيئة شلّال. ولعلّ أصدق لوحة كتبت عن انتصار الثورة السورية هي تلك الجملة القائلة "سقط الأبد". لا مكان للأبدية في الشرق الأوسط، حتى إن أشهر جملة يرددها الساسة الغربيون حول المنطقة هي "حق إسرائيل في الوجود". الطبيعة الهيولية للشرق الأوسط تجعل كل شيء غير مستقر، بما فيها المدينة العبرية المحمية بكل آلات الموت والنجاة.
ما من شيء مستقرّ في الشرق الأوسط. فكل محاولة لإعادة هندسته ليبدو جديداً ومقبولاً تصطدم بحقيقة أنه لا بد من إصلاح ماضيه أولاً. تقع مسألة الصراع العربي- الإسرائيلي في أعلى كشف الحساب، ثم تليها مسألة الوحدة العربية، ومن خلفهما شبكة من القضايا الاجتماعية والسياسية بالغة التعقيد، وكل ذلك من الماضي المفتوح. المشاريع الإيديولوجية التي ظهرت في الشرق الأوسط خلال القرن الماضي كانت كلها، من أقصى اليمين إلى اليسار، عابرة للحدود، وحدوية، ترفض مشروع الدولة القطرية التي جاءت على حساب "وحدة الأمة". ماضي الشرق الأوسط ثقيل ومركّب، وهي حقيقة تجعل من "الاستقرار" حدثاً غير مستقر.
يترابط الشرق الأوسط على نحو مثير، ويحدث أن يثير بردٌ في القاهرة حمّى في صنعاء. الأمة الواسعة ذات اللغة الواحدة والدين الواحد والتاريخ المشترك تعرضت لتقسيم انتحاري قبل قرن من الزمن. ترك ذلك التشظي جرحاً كبيراً في نرجسية المجتمع العربي المعتد بتاريخه الحضاري وبنظامه الأخلاقي. ما إن لاحت بوادر انهيار الإمبراطورية العثمانية حتى نهضت القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك لتتدبر سؤالاً خطراً: كيف سيبدو شكل السلم والسياسة في العالم إن نجح العرب، ذوو اللغة الواحدة، في تشكيل دولة مركزية تمتد من لبنان على طول البحر المتوسط حتى المغرب المشرف على المحيط الأطلسي؟ المراهق المضطرب نفسياً مارك سايكس، وكان في الثلاثينات من عمره، وقف أمام القادة البريطانيين ورسم خطاً من كركوك إلى عكا، قائلاً إنها بلاداً شبه فارغ فلنقسمها على هذا النحو. لم يستقر شيء منذ ذلك الحين، فالحقيقة الشرق الأوسطية التي نشأت كنتيجة للحرب العالمية الأولى لا تزال حقيقة فارغة وغير مستقرة.
بعد الحادي عشر من سبتمبر، 2001، تبنى الأميركان الفكرة القائلة إن الديكتاتورية هي المولد الرئيس لظواهر العنف والإرهاب الطالعة من الشرق الأوسط. وكتبت توماس فريدمان مقالة شهيرة جادل فيها قائلاً إنه ما من معتقل هندي واحد داخل غوانتانامو حيث 35 ألف معتقل، برغم أن الهند تحوي أكبر تجمع للمسلمين في العالم. في تقديره، وكانت تلك الفكرة قد صارت إلى تيار عام، فالديموقراطية الهندية أتاحت منصّات مفتوحة للتعبير السياسي والثقافي، فاستغنى الناس عن التنظيمات السرية والأنشطة العنيفة. فتح الربيع العربي، 2011، فرصة لشرق أوسط قابل للاستقرار وبقي العالم الغربي متوجّساً. لم يعلق أوباما على الحدث التونسي إلا قبل رحيل بن علي بيوم واحد. استقبلت إسرائيل الربيع العربي على نحو مختلف، إذ نقلت واشنطن بوست )فبراير 2102) عن مسؤول إسرائيلي قوله "بعض الناس في الغرب يقارن ما يحدث في مصر بما جرى في أوروبا سنة 1989. أما نحن نراه مشهداً شبيهاً بطهران 1979".
ثمة دلائل كثيرة تشير إلى أن الرؤية الإسرائيلية للديموقراطية في الشرق الأوسط وجدت مكانها داخل الرؤية الغربية، وهي رؤية ستتجلى في مقالة مهمة لتوماس فريدمان )نيويورك تايمز، 27 نوفمبر، 2011( حول إسرائيل والربيع العربي، تذهب المقالة إلى اعتبار إسرائيل "أكبر الخاسرين" من تلك الصحوة العربية. إسرائيلياً اتخذت الاستخبارات العسكرية اسماً غامضاً للربيع العربي Taltala وهي كلمة عبرية تعني "الهزة"، وأشير إليه على مستويات أخرى مختلفة ب"الطاعون المصري"، في سياق توراتي غريب بعض الشيء. حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط فإن الخيال الإسرائيلي، السياسي والأمني، يصبح مخيالاً غربيّاً.
هل الديموقراطية حلّا لمعضلة الشرق الأوسط أم هي الديكتاتورية؟ يقدم الكاتب الإسرائيلي لازار بيرمان، في مقال له على تايمز أوف إسرائيل )أبريل،2021) إجابة صادمة "تقوم استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي على التفاهمات الضمنية والاتفاقات المكتوبة مع المستبدين العرب وليس مع الجماهير التي لا تقبل بالوجود الإسرائيلي بشكل كامل". الاستبداد معضلة تخلق الإرهابيين المهددين للغرب، والديموقراطية تصدّر الإسلاميين والقوميين المعاديين لإسرائيل. أخذت الخفّة "الاستراتيجية" هذا الشكل المأساوي في مقاربة الشرق الأوسط، بل وردت التناقضات على لسان المفكر نفسه – فريدمان- في مناسبتين مختلفتين. في مقالة له على هآرتس، ديسمبر 2020، يقرر الكاتب الإسرائيلي آشيل فيفر "بعد عشر سنوات من الربيع العربي لم يعد أحد يرى في الديموقراطية علاجاً شافياً للشرق الأوسط".
أين نذهب بهذا الشرق الأوسط، وكيف نعالجه؟
*نقلا عن الجزيرة نت