إيران: التفاوض قرب حاملة الطائرات

«إيران قوة عظمى»، «يبلغ نفوذنا سواحل البحر الأبيض المتوسط، للمرة الثالثة»، بعد الامبراطوريتين الإخمينية والفارسية، «البحر الأحمر تحت السيطرة الإيرانية وبالتأكيد لا يمكن لأحد أن يناور في المنطقة التي نسيطر عليها»، «إيران تسيطر على أربع عواصم عربية»، نفوذنا يمتد «من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن وأفغانستان»، «الثورة الإيرانية لا تعرف الحدود، وهي لكل الشيعة»، «إيران أصبحت الآن امبراطورية، كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وبغداد مركز حضارتنا وثقافتنا، كما كانت في الماضي»، «سندمر إسرائيل في نصف ساعة»، «لن يبقى أي وجود لإسرائيل على الخارطة في حال مهاجمتها لإيران».

هذه قطرة من بحر تصريحات إيرانية متتالية من قمة الهرم، من عند المرشد علي خامنئي ومستشاريه، والرئيس ومستشاريه، والحكومة ووزرائها، والبرلمان وأعضائه، إلى قادة الحرس الثوري والزعماء الدينيين، وقيادات الباسيج وغيرهم، خلال العقود الماضية، حيث امتلأت الذات الإيرانية بسكرة بعثت على أحلام طوباوية وارفة، قبل أن يفيق النظام في طهران على واقع مغاير.

عقود طويلة من الاستثمارات الإيرانية في مراكمة القوة، عقود من العمل على «تصدير الثورة» الذي يعني على المستوى النظري تصدير التشيع بمستوييه: الديني والسياسي، والذي يعني على المستوى العملي دعم الميليشيات الطائفية في البلدان العربية، ولكي لا يظهر هذا الدعم على أساس أنه دعم طائفي، فلا بأس من دعم حركات المقاومة الفلسطينية.

ما يبدو أن طهران لم تدركه أن مراكمة القوة بالشكل الذي شهدناه خلال العقود الماضية كان برضى غربي وأمريكي تحديداً، كان التمدد الإيراني خلال العقود التي أعقبت الحرب العراقية الإيرانية، كان هذا التمدد ضرورياً لسياسات دولية قائمة على لعبة التوازنات، كانت مصانع السلاح تحتاج لحركة، وكان التواجد الأمريكي في المنطقة يحتاج لمبررات أمنية، وكان التمدد الإيراني كفيلا بتوفير هذه المبررات، خلال الفترة الماضية، الأمر الذي أدى إلى غض الطرف عن – إن لم يكن تشجيع – التوسع الإيراني إقليمياً، قبل أن تكون الصين أولوية أمريكية قصوى، ما يحتم تهدئة الشرق الأوسط، للانتقال لشرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، وهو ما يجب معه تقليص فائض القوة الإيرانية.

فجأة، اختلت التوازنات في الشرق الأوسط، وبالتالي اختلفت التصريحات، تحولت التصريحات الإيرانية المذكورة في بداية المقال إلى تصريحات من نوع آخر لم نألفها من طهران، تصريحات من مثل: لا نسعى للصراع، نرحب بالبضائع الأمريكية، مع الترحيب باستثمار أكثر من أربعة تريليونات دولار أمريكي مع «الإخوة الأمريكيين»، و«إيران لم تقل إنها ستمحو إسرائيل من الخارطة»، وغيرها من تصريحات بدت للمراقبين أشبه ما تكون بالتقية السياسية، ولكن مع رجل لا يبدو أنه يميل لمثل تلك المناورات، رجل اسمه دونالد ترامب، يقول بوضوح: إما التفاوض المحدد بزمن للوصول لاتفاق نووي أو ضربة عسكرية كارثية على إيران.

وعلى الرغم مما هو معروف من أن إيران ترفض وجود سقف زمني للتفاوض، كي تلعب على عامل الوقت، وعلى الرغم من أنها، حسب تصريحات كبار مسؤوليها ـ ترفض التفاوض تحت التهديد، إلا أن وزير الخارجية عباس عراقجي التقى المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف في مسقط، بالقرب من البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية في خليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي، وهي التي احتشدت في الفترة الأخيرة، في رسالة تهديد واضحة لطهران.

في البداية حاول الإيرانيون ـ كعادتهم ـ المناورة، لكن ترامب يريد اتفاقاً ناجزاً خلال شهرين. المفاوضات التي امتدت لسنوات طويلة، والتي كانت تتخللها البسمات والنكات أحياناً، والأجواء التي كانت تسود لقاءات ظريف ـ كيري لا يبدو أنها قابلة للتكرار مع وجود رئيس جديد في واشنطن، لا يؤمن بأنصاف الحلول، ولا يحبذ الصفقات المؤجلة، وليس لديه من الوقت ما يضيعه، مع مزاج سيئ فيما يخص تلقي النكات والبسمات التي كان وزير الخارجية الإيراني الأسبق جواد ظريف يصوغها مع جون كيري الذي قال مؤخراً إن الظروف الحالية مهيأة لإنجاز اتفاق أفضل ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ من اتفاق 2015.

لا تملك إيران ـ إذن ـ ترف الوقت، القادة السياسيون والعسكريون التقوا في اجتماع حاسم، قالوا للمرشد: لم يعد لدينا المزيد من الوقت، إما أن نقبل التفاوض، أو سنتعرض للقصف، وحينها ستحدث اضطرابات شعبية ستؤدي حتماً إلى سقوط النظام. خامنئي المتصلب يلين، ويرضخ، بعد أن وضعه قادته في صورة العواقب الوخيمة لرفض التفاوض مع رجل مثل ترامب، لم يتعود على فنون «حياكة السجاد» و«التقية السياسية» التي يبرع فيها الإيرانيون.

تذهب إيران للتفاوض هذه المرة لا مع جون كيري، ولكن مع ستيف ويتكوف، وعلى الرغم من أن رئيسها مسعود بزشكيان، مرن على غرار حسن روحاني، لكن دونالد ترامب مخلوق من طينة أخرى غير تلك التي جبل منها رجل آخر مثل باراك أوباما. وفوق ذلك يذهب المفاوض الإيراني بعد أن غاب حسن نصر الله، رجل إيران القوي في لبنان، واستعدت ـ ولو تقية ـ ميليشياتها في العراق لتسليم مواقعها للجيش، ولجأ بشار الأسد لروسيا، فيما لا يبدو الوكيل الحوثي في أحسن أحواله.

أي خطأ في الحسابات – إذن – قد يكون ثمنه رأس النظام في طهران، فيما الشارع الإيراني يترقب، والاقتصاد يتدهور، والعملة تتراجع قيمتها، والتضخم بمعدلات قياسية، والأسعار في حالة من الهيجان، بفعل عقوبات كثفت واشنطن منها بعد مجيء ترامب للفترة الرئاسية الثانية، ليعود لسياسته السابقة في «تصفير تصدير النفط» الإيراني.

ستجري المفاوضات هذه المرة تحت سمع وبصر البوارج وحاملات الطائرات، والنتيجة واحدة من اثنتين: رأس البرنامج النووي، أو رأس النظام، وعند وضع كهذا فلا بأس من غض الطرف عن حكاية «الكرامة الوطنية» التي يتحدث عنها الإيرانيون بإسهاب، لا بأس باستثمارات الشيطان الأكبر أو «الإخوة الأمريكيين» التي لن يعجز النظام عن إيجاد فتوى لتحليلها، بعد أن كانت تدخل ضمن المحرم شرعاً طيلة العقود الماضية.

لا نستطيع التنبؤ بمآلات المفاوضات بين «الشيطان الأكبر» و«محور الشر»، حسب التعريف الأمريكي، لكن المؤكد أن طهران يمكن أن تذهب إلى أبعد مما يمكن أن يتصور أولئك الذين نفخت فيهم طهران روح الأيديولوجيا من ميليشياتها الطائفية، وأنها من أجل حماية النظام يمكن أن تضحي، ليس فقط بالميليشيات التي أنشأتها في البلدان العربية، بل وبالطموح النووي والإقليمي لطهران.

ومن اليوم إلى نهاية فترة التفاوض سيظل وكلاء إيران يحارون في تفسير تحول «الشيطان الأكبر» إلى «الإخوة الأمريكيين»، والتحول من «مقاطعة أمريكا» إلى الترحيب باستثماراتها، ومن «تدمير إسرائيل» إلى التنصل من هذه التصريحات.

فهل بعد ذلك كله يدرك وكلاء إيران أنها محكومة بقوانين «العرض والطلب» في بازار طهران أكثر مما هي متبعة لتشريعات «الحلال والحرام» في الإسلام؟ّ!