الوحدة في وجه الإمامة الجديدة: قراءة تحليلية في خطاب الرئيس العليمي بمناسبة 22 مايو

 تضمنت كلمته خطابا سياسيا وازنا وتاريخيا عالي النبرة والدلالة.

 

حدد نوع الوحدة التي يريدها اليمنيون اليوم: "وحدة من أجل الدولة لا المليشيا"، "وحدة من أجل الجمهورية لا الإمامة"، "وحدة من أجل الشراكة والتنوع لا الهيمنة والإقصاء".

.....

في ذكرى الثاني والعشرين من مايو، الذكرى الخامسة والثلاثين لإعلان الوحدة اليمنية، ألقى رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد محمد العليمي خطابا استثنائيا، ليس فقط لكونه جاء في لحظة فارقة من تاريخ اليمن الحديث، بل لأنه أعاد تعريف مفهوم الوحدة بعيدا عن الشعارات، وجعل منها بوابة لمستقبل الجمهورية، وسدا في وجه المشروع الإمامي الطائفي الذي تحاول ميليشيات الحوثي إعادة إنتاجه.

 

جاءت الكلمة، التي وجهها العليمي إلى كل اليمنيين داخل الوطن وخارجه، وإلى القوات المسلحة، وإلى المرأة اليمنية التي وصفها بالصامدة، محملة بإرث وطني طويل، يستدعي مراحل الكفاح منذ سبتمبر وأكتوبر، ويمتد حتى ميلاد الجمهورية اليمنية عام 1990.

على إن ما يميز هذا الخطاب أنه لم يأتي كمجرد تهنئة رسمية، بل كموقف سياسي ناضج، يتعامل بواقعية مع المتغيرات، ويقدم رؤية تصالحية مع الجنوب، بقدر ما هو صارم في مواجهة الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران.

 

والشاهد أن الرئيس أظهر إدراكا عميقا للتحولات التي طرأت على المزاج الشعبي في الجنوب، فأشار إلى الإرث المؤلم من الإقصاء والمركزية، واعترف بما تعرض له الجنوبيون من مظالم.

 ولكنه في الوقت ذاته أكد أن الجنوب لم يكن يوما كيانا معارضا للوحدة، بل كان رائدها، فالنشيد والراية والمبادرة كانت جنوبية، وهو بذلك يعيد الاعتبار لدور الجنوب التأسيسي في بناء الجمهورية اليمنية، لا كتنازل، بل كاستحقاق تاريخي.

 

وفي مقاربة مسؤولة وناضجة، شدد الرئيس على أن معالجة القضية الجنوبية لا تكون عبر "تسويات شكلية"، بل من خلال "الإنصاف الكامل والضمانات الكافية" التي تتيح للجنوبيين تقرير مركزهم السياسي والاقتصادي والثقافي في الدولة. وهذه إشارة واضحة إلى أن الحل الشامل لا يتحقق دون شراكة حقيقية، تقوم على العدالة والمواطنة لا الهيمنة والإقصاء.

 

على إن من أبرز محاور الخطاب، ربط الرئيس بين معركة الجمهورية وبين مفهوم الوحدة. 

فالوحدة، كما صورها، ليست قالبا جامدا أو شمولية موروثة، بل وحدة تقوم على التعددية، والعدالة، وتكافؤ الفرص.

 

 وفي المقابل، قدم صورة سوداوية دقيقة عن ميليشيات ال..حوثي التي تزعم الدفاع عن السيادة والوحدة، وهي تمارس الانفصال العملي عبر السطو والنهب والطائفية وإغلاق الطرقات واستدعاء التدخل الخارجي خدمة لأجندة إيران التوسعية.

 

بمعنى أدق فإن الح..وثية، بحسب الخطاب، ليست فقط خطرا سياسيا أو أمنيا، بل خطر وجودي على هوية اليمن الثقافية، والعربية، والجمهورية والوحدوية.

 

 وهذا التوصيف يعيد الصراع اليمني إلى جذوره الحقيقية: صراع بين مشروع الدولة ومشروع الإمامة، بين المدنية والطائفية، بين التعددية والثيوقراطية.

 

فيما امتاز الخطاب بأنه لم يغرق في العموميات أو الطموحات الفضفاضة، بل قدم خطوات ملموسة بدأ العمل بها: تعزيز استقلال السلطات، تفعيل أجهزة إنفاذ القانون، تحسين أداء القضاء، وإصدار أحكام رادعة في قضايا جنائية متوقفة منذ عشر سنوات. 

كما أشار إلى خطط إصلاح في قطاعات الطاقة والخدمات، وإلى تعويله على دعم الأشقاء في السعودية والإمارات.

 

وصدقوني إن هذا التحول من الخطاب التنظيري إلى الممارسة الواقعية يعكس إرادة سياسية واضحة في تحويل الدولة إلى حاضنة للمواطنة، لا إلى أداة قمع أو فساد.

 ويؤكد أن الشرعية ليست مجرد شعار، بل مسؤولية شاملة في مواجهة ميليشيا مسلحة، أيضا في تصحيح أخطاء الماضي.

 

لكن من اللمسات اللافتة في الكلمة، إشارته إلى احتجاجات النساء في عدن، واعتبارها حافزا لا تهديدا. وهذا يعكس فهما مدنيا راقيا لطبيعة الاحتجاج، ويؤكد أن الدولة تحت قيادة العليمي لا تتعامل مع الشارع بعقلية أمنية، بل بعين سياسية تستفيد من النقد وتعمل به.

 

في الحقيقة تجلت ذروة الخطاب في مقاطع ختامية حاسمة، إذ حدد الرئيس نوع الوحدة التي يريدها اليمنيون اليوم: "وحدة من أجل الدولة لا المليشيا"، "وحدة من أجل الجمهورية لا الإمامة"، "وحدة من أجل الشراكة والتنوع لا الهيمنة والإقصاء".

كذلك فإنها ليست مجرد عبارات رنانة، بل برنامج وطني للمرحلة القادمة، يحشد فيه الطاقات في مواجهة عدو مشترك، ويعيد التوازن داخل الشرعية عبر خطاب جامع، واقعي، وتاريخي في آن.

 

من هنا فإن خطاب الرئيس العليمي في هذه الذكرى الوطنية يمثل محطة فارقة، كونه يجمع بين الاعتراف بالتحديات، والتعهد بالإصلاح، والدعوة إلى وحدة جمهورية حقيقية، لا شكلية. 

وهو خطاب تأسيسي لمرحلة جديدة، تُبنى فيها الدولة على أنقاض الإمامة الجديدة، وتحفظ فيها عدن مكانتها كمنارة للمدنية، ويتصالح فيها الشمال والجنوب تحت مظلة وطنية عادلة.

 

والحق يقال إنها دعوة لاجتماع يمني جامع، لا يقوم على الغلبة بل على الشراكة، كما لا ينكر الماضي بل يتجاوزه، ولا يساوم في مواجهة مشروع الموت الحوثي، بل يواجهه بوطن كامل السيادة، راسخ الأركان.!

 

تأكيدا فإن كلمة الدكتور رشاد العليمي، تضمنت خطابا سياسيا وازنا وتاريخيا عالي النبرة والدلالة.

فقد أعاد فيه تعريف الوحدة لا كشعار استهلاكي، بل كمشروع وطني جامع يقوم على العدل والمواطنة المتساوية. 

كما استلهم الرئيس لحظة 22 مايو 1990 بروح جنوبية سباقة، مجددا الاعتراف بالقضية الجنوبية بما تحمله من نبل وصدق،و مقرا في الوقت ذاته بمظالم الماضي، من إقصاء ومركزية مفرطة.

 

لكن من الواضح أن العليمي بدا كمن يكتب تاريخاً جديداً للوحدة، يعيد صوغها بوصفها وحدة للعدالة والشراكة، لا للتفوق والاستحواذ، ويؤسس لمفهوم وطني جامع يتجاوز المليشيا والإمامة نحو جمهورية مدنية متجددة.

 

من هنا فإن كلمته بهذه المناسبة الجليلة تمثل خطاب لحظة فارقة، ومفترق طرق، يسعى لإحياء روح الدولة اليمنية وسط ركام الحرب والانقسام.

 

لنخلص إلى أن الخطاب كان في جوهره دعوة لإعادة إنتاج الدولة اليمنية الحديثة على أسس جديدة: حماية النظام الجمهوري، وترسيخ التعددية، وبناء وحدة متكافئة. 

 

ولقد ربط العليمي بين هذه الأركان الثلاثة وبين التهديد الحوثي الوجودي، واصفا الجماعة بالكهنوتية، والإمامية الجديدة، والعدو المشترك الذي يستدعي التكاتف الوطني، لا سيما في ظل ما تقوم به من حصار، ونهب، وإعادة إنتاج للتمييز الطبقي والطائفي.

 

كذلك فإن خطابه إجمالا حمل نفسا وحدويا جديدا، يتجاوز الإنكار ويعترف بالأخطاء، ويراهن على إصلاح واقعي، لا وعود هلامية. كما شدد على أن الجنوب ليس خصما، بل شريكا وأصلا في الدولة.