يتألم الإنسان الحر حين يرى بلده يُقصف، وأهله يُقتلون. يتألم أكثر على الأبرياء. لكن عشر سنوات من الحرب فتحت أبواب الجحيم، وأعادت ترتيب الجدول الأخلاقي في البلاد، وفي نفوس الناس.
بدأت إسرائيل تقصف منشآت ومصالح في اليمن بعد عشر سنوات من حربٍ أهلية دشنها الحوثيون بتحالف مع صالح، واستمرت حتى نهاية عام 2017. كان خصومهم، في نظرهم، إرهابيين.
القصف الإسرائيلي بشع، يجرح وجدان اليمنيين، ويستهدف مصالحهم ومنشآت شُيّدت بثمنٍ وعرق. منشآت كان يمكن أن تُضاف إلى رصيد التحديث في اليمن، كل اليمن، وربما قد تكون قاعدة للانطلاق نحو السلام والتنمية.
لكن الحرب الأهلية مزّقت اليمنيين شرّ ممزق، شرّدتهم، وخلّفت أحقادًا وتنازعًا ليس من السهل تجاوزه. أعادت الحرب فرز الخصوم في الداخل والخارج، وأنهت زمن السياسة والتعايش.
لا وئام في الحروب الأهلية، إلا بالحد الأدنى، لدى من تعالوا على جراحهم وتجاسروا على مشاعرهم. أما الغالب، فهي منفذ رئيس لقوى غاشمة كإسرائيل.
ها هو الحوثي، بتدخّله خارج اليمن، وحربه الداخلية، وكونه وكيلاً لمصالح إيران في حروبها وسياساتها الخارجية، ثم بجلبه إسرائيل إلى المشهد بعدوانها، يدفع اليمنيين إلى امتحان عسير في تلاحمهم.
لا يحق له أن يدعو الجميع إلى التضامن معه والوقوف في صفّه، لأنه، بالضرورة، يدفعهم إلى مقارنة الجُرم بالجُرم، وكلٌ سيرى جُرمه بعين جرحه.
لم تكن إسرائيل، بكل قبحها، لتحظى برضا أو قبول، أو حتى عدم مبالاة من اليمنيين، وهي تعتدي على بلدهم، لولا هذه الحرب. لكن المعركة الأخرى التي تُفرض على اليمنيين اليوم هي معركة الإدانة المتبادلة، بين التواطؤ والتواطؤ المضاد. سيتنازعون في تحديد أي ناحية منهم يصبّ العار، غير أن العار الحقيقي هو في تجاهل كل جريمة وقعت بحق اليمنيين، واستغفال ذاكرتهم.
أقرب فرصة للتسامح، والتسامي على الجراح، ولملمة الشأن اليمني، وكبح التدخلات الخارجية، وترميم مكتسبات البلاد، ورتق النفوس، كانت مشاورات الكويت.
باتصالٍ هاتفي إيراني واحد، نسف الحوثيون ذلك الاتفاق، وقرروا الذهاب إلى حرب أوسع وأشمل، مفتونين بالسلاح، والقوة النارية، وتصفية تركة صالح الداخلية.
ذهب الحوثي إلى معاركه الخاصة، الداخلية والخارجية، ببلاد منقسمة، وشعب منهك، لا قدرة له على أكثر من طلب البقاء. وفائض الكرم والشهامة ونجدة المحتاج لا يكفي. ليس من الحكمة خوض حرب بجيش تجوّعه، وشعب تضيّق عليه وتضطهده.
اختار الحوثيون خصومهم، واحتكروا شرف المعركة مع إسرائيل. فإن قُتلوا، لا يستطيعون انتزاع اعتراف جمعي بشرف الموت والنضال.
ما أسهل التخوين، والتعيير، والشتيمة، والتشفّي.
لكن العدل، كل العدل، هو في إعادة النظر في تعريف الجُرم والمجرم.
إسرائيل دولة غاصبة، مطلقة اليد في المنطقة، تمارس ما تشاء من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية. ترى الإنسان العربي عدوًا في قصتها التأسيسية. تنفذ إلى البلدان حيث الفساد والفتنة الأهلية، حيث الظلم والطغيان.
إسرائيل لا تفعل أكثر من تطوير الجحيم، وأدوات الحروب، وتقاتل على أسس من التمييز باسم "التحضّر" و"الشعب الخاص". تقتل الأطفال، وتحاصر المدن.
أما الحوثي، فنعرفه أكثر لأننا عايشناه. فتح باب الوحشية، صبّ جحيم الحرب على اليمنيين، وأقام سلطته على أساس من العنصرية والتمييز. أطلق العنان لفئة تقتل فئة، قنص الأطفال، وحاصر القرى والمدن. قتل السياسة، وأفسد التعايش، وشطَر اليمن أكثر مما كان.
ها هما يتشابهان في الجُرم، ولا شرف لأحدهما على الآخر. بينهما يموت اليمني مرتين: مرة بالنار، ومرة بالاقتتال على توزيع العار.
تابع المجهر نت على X