توظيف الدين ليس خطأ في حد ذاته، ولكن الخطأ أن يُوظَف الدين لتحقيق أهداف شخصية أو حزبية أو فئوية أو طبقية تتعارض مع الرسالة الروحية والأخلاقية والاجتماعية للدين، ونخص بهذا توظيف الدين لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية تسيء إلى القيم الروحية للأديان.
عندما يوظف الدين لتفجير طاقات المجتمع بشكل إيجابي نحو البناء والتعايش والتعاون والمشاركة ورفض الظلم والعدوان ومواجهة الطغيان والدفاع عن النفس، فهذا ضرب من التوظيف الإيجابي للدين المنبعث من دوافع روحية، وعندما يوظف الدين للوصول إلى السلطة، ومن ثم نهب أموال الناس، أو يوظف لشن الحرب والعدوان وسلب الحقوق واحتلال الأرض، فهذا ضرب من التوظيف النفعي للدين الذي يتناقض مع رسالة أي دين. ولتقريب الصورة يمكن القول مثلاً: إن الدين طاقة هائلة، وهذه الطاقة يمكن أن تكون قنبلة تنفجر في الأبرياء، كما يفعل المتطرفون، ويمكن أن تكون محطة طاقة ينتفع بها الناس.
ومن هنا يُطرح دائماً أن المشكلة تكمن في «الفكر الديني أو الخطاب الديني» وليست في الدين ذاته، أو أنها تظل في طريقة التعامل مع النصوص المقدسة، وفي فهم وتأويل هذه النصوص، لا في النصوص ذاتها، وفي التأويل تكمن الأهواء والأغراض والفهوم المختلفة.
وبالنظر إلى الحرب الإسرائيلية على غزة يلحظ المتابعون أثراً كبيراً للنصوص الدينية – من خلال الخطاب الديني – على مجريات الحرب وسلوك المقاتلين والمدنيين بشكل عام، ويمكن هنا رصد توظيفين مغايرين لدينين مختلفين، أولهما إيجابي، والآخر سلبي، بالنظر إلى المعايير القيمية والإنسانية، وهذان التوظيفان هما: توظيف الفلسطيني للإسلام لدعم صموده ودفاعه عن نفسه، وتوظيف الإسرائيلي لليهودية لدعم احتلاله وعدوانه.
التوظيف الفلسطيني للدين هو نوع من توظيف الطاقة الإيجابية للاستمرار في المقاومة، والتمسك بالأمل، والإيمان الراسخ بالنصر، لأن الدين هنا يمثل ملاذاً نفسياً، ومبعث قوة روحية هائلة، يحتاجها الإنسان في لحظة مواجهة قوة هائلة لا قبل له بها، حيث يلجأ إلى ركن شديد يوفره له الإيمان بقوة الله.
يرى ابن خلدون في المقدمة أن الدول تقوم على دعامتين رئيستين: الأولى: العصبية، ويقصد بها الانتماء، سواء للقبيلة أو الشعب أو الأمة، والثانية: الدين الذي يرى أنه يحد من الآثار السلبية للعصبية، لأنه «يذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء» في إشارة إلى القوة الهائلة التي تمنحها العقيدة الدينية للمجموعات البشرية والتي بها تستطيع الصمود وهزيمة أعتى الأعداء، لأن الأعداء هنا، حسب ابن خلدون «وإن كانوا أضعافهم (المقاومين) فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل، فلا يقاومونهم، وإن كانوا أكثر منهم، بل يغلبون عليهم، ويعاجلهم الفناء، بما فيهم من الترف والذل» وهذا ـ في وجه من الوجوه ـ يفسر هذا الصمود المعجز للمقاومة الفلسطينية، أمام أعتى قوة احتلال مدعوم بأقوى جيوش العالم.
ولا شك أن لآيات القرآن الكريم التي يحفظها المقاتلون، والتي تحض على الاستبسال والمقاومة ومواجهة العدوان، والدفاع عن المستضعفين، ضمن عقيدة دينية راسخة، وتربية إيمانية قوية، كل ذلك له دور في هذا الصمود المثير للدهشة، رغم عدم وجود أي مقارنة بين الكثافة النارية والبشرية لكل من الجيش الإسرائيلي والمقاومين الفلسطينيين في الحرب على غزة.
ولإدراك المقاومة الفلسطينية لأهمية البعد الروحي في المعركة، لا يكاد بيان لها، أو تصريح للناطقين باسمها يخلو من آيات قرآنية أو حديث نبوي، لرفع الروح المعنوية، وبث طاقة صمود في نفوس المقاومين والمدنيين على السواء. وعدا عن صمود المقاومين، هناك أثر كبير للعقيدة الدينية في صمود الحاضنة الشعبية للمقاومة التي أصبح صمود أبنائها ظاهرة محيرة لكثير من غير المسلمين الذين لا يجدون تفسيراً لقول آخر الناجين من أسرته عمن ذهب منهم إلى الله: الحمد لله، شهداء بإذن الله.
وفي المقابل يتمثل التوظيف السلبي للدين في حضور حاخامات يهود إلى معسكرات الجيش الإسرائيلي، ومشاركتهم الجنود أحياناً في الميدان، لإعطاء محاضرات دينية عن «اليهود والأغيار» من أجل شحن الجنود بطاقة حقد وكراهية تجاه الفلسطينيين أو العرب/الأغيار، نتج عنها هذا الدمار الهائل في المعمار، ناهيك على قتل أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني، معظمهم نساء وأطفال، في غزة.
ومن ضمن الدروس الدينية التي يتلقاها الجنود الإسرائيليون من قبل الحاخامات فتاوى بجواز قتل الأطفال والمدنيين في الحرب. في العام 2009 صدر الجزء الاول من كتاب «توراة الملك» أو «شريعة الملك» من تأليف الحاخامين يتسحاق شابيرا و يوسيف اليتسيور، ثم صدر الجزء الثاني من الكتاب عام 2017، وفي الكتاب توثيق لفتاوى حاخامات يهود مستندة إلى تأويلهم لنصوص توراتية، بشكل يبيح قتل الأطفال والأبرياء من «الأغيار/غير اليهود» حيث جاء فيه: «قرر حكماؤنا العظماء أنّ أفضل الأغيار في فترة الحرب هو الميّت» وهي الحكم الذي على أساسه انتشرت فكرة «العربي الطيب هو العربي الميت» مستندة إلى ما «قرره» هؤلاء الحكماء الذين بنوا حكمهم على أساس أنه: «لا يوجد مجالٌ لإصلاحهم (الأغيار) لأن خطرهم وخبثهم عظيمان».
وأما ما يخص الأطفال في الأعمار ما بين يوم واحد وسن الرشد، فإنهم وإن كانوا لا يخالفون «الفرائض السبع» لعدم التكليف، إلا أنه يجوز قتلهم، «بسبب الخطر المستقبلي الذي يشكلونه، إذا سُمح لهم بالعيش ليكبروا، فيصبحوا أشراراً مثل أهلهم» كما أنه يجوز قتل الأطفال والمدنيين الآخرين الذين يحتمي بهم «الأشرار» حسبما جاء في الكتاب المذكور أعلاه.
وانطلاقاً من هذه الأفكار أجاز الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي «إيال موشي كريم» للجنود اغتصاب النساء غير اليهوديات أثناء الحرب، بقوله: «لما كان همنا هو نجاح الجماعة في الحرب فقد سمحت التوراة بإشباع رغبة الجنود بالنساء، بالشروط التي وضعتها، من أجل نجاح الجماعة، وإنه من المباح ممارسة الجنس مع النساء في الحرب، خلاف رغبتهن».
وقد أفاد تقرير خبراء الأمم المتحدة الصادر نهاية الشهر الماضي أن الخبراء اطلعوا على اتهامات «موثقة» بتعرض فلسطينيات للاعتداءات الجنسية والاغتصاب، على يد جنود إسرائيليين في الضفة وغزة، وهو الأمر الذي ارتفعت بموجبه الدعوات لإجراء تحقيق شامل.
وبطبيعة الحال فإن التوظيف الإيجابي للإسلام في فلسطين وغزة ومجالات أخرى نافعة لا ينفي وجود توظيف سلبي في المعتركات السياسية، كما أن التوظيف السلبي لليهودية في فلسطين وغزة لا ينفي وجود يهود آخرين ينطلقون من منطلقات دينية في رفضهم لسياسات الحكومة الإسرائيلية التي يرون أنها تمثل الصهيونية كأيديولوجيا، ولا تمثل اليهودية كدين.