الحافز لكتابة موضوع اليوم، هو رد فعل على ظاهرة المعارك الكلامية والدعائية التي بلا معنى ولا فائدة التي يتنافر اليمنيون داخلها والتي تشتت انتباههم عن المعركة المصيرية.
اليمن غارقة في الجوع والعطش ونزف الدم.
واليمنيون في عصر الوسائط الاجتماعية، غارقون في معارك كلامية تمتص رحيق قوتهم.
هذه ليست ظاهرة حيوية ولا نفع منها ولا فائدة.
**
أولا: معارك عقيمة تلهي عن معركة مصيرية
**
١- المعركة الوجودية
*
سنفصل جانبا المعركة التاريخية الوجودية المصيرية التي تدور بين الحوثيين وكل اليمنيين.
هذه معركة لا مفر منها، وسوف تنتهي طال الزمان أو قصر بزوال الحوثيين.
٢- معارك لا طعم لها ولا رائحة
*
هذه معارك، نحن نتأفف منها ونتعفف.
هذه معارك يجب أن نجد طريقة للتعامل معها.
هذه معارك، يمكن أن نتعايش معها في أيام عادية وكما يحدث في كل أنحاء العالم.
٣- كيف يتعاركون؟ وعلى ماذا؟
*
أ- استقطاب حاد حول الملفات الإقليمية — خاصة غزة وإسرائيل.
ب- تضخم المنصات المحلية والإقليمية كمنصات اشتباك.
ج-تكتيكات دعائية متكررة:
حشد وسوم/هاشتاقات، إعادة نشر مقاطع قصيرة مثيرة، اتهامات شخصية، و"قنوات مدفوعة" أو حسابات دُفعت لنشر رسائل معينة—كلها أدوات تُستخدم لتأجيج المهاترات أو تحريك الرأي العام
د-سيل معلومات خاطئة وتجنيد إعلامي.
هـ- التأثير الملموس على الشارع والقرارات:
المهاترات الرقمية ليست مجرد ثرثرة، ولكن لها انعكاسات على مزاج الشارع، وتحفز ضغوطاً على قوى محلية وإقليمية، وتغيّر طريقة تغطية الإعلام الرسمي وغير الرسمي.
٤- من هم المتعاركون؟
*
هذه هي المعارك التي تحدث في هذه الأيام الغير العادية:
الوحدويون والانفصاليون.
الإصلاح والاشتراكي والناصري.
أنباع الإمارات وأتباع السعودية.
الكانتونات المتنافرة.
التقدميون والرجعيون.
الليبراليون والمتزمتون الغير متحزبين
المؤثرين في الوسائط الاجتماعية.
٥- معارك مدفوعة الأجر
*
الدافع المالي/الوظيفي مهم:
كثير من الحِشد الإعلامي والسياسي له جذور مموّلة أو له مصلحة اقتصادية (وظيفة، عقود، تحكّم بميناء/جمارك…).
أحيانا، لا نفسّر السلوك السياسي فقط بأيديولوجيا.
وأحيانا، تتستر الأطماع بالأيديولوجيا.
وأحيانا، يتم الارتزاق بالسياسة والأيديولوجيا.
٦- المنصات
*
ليس فقط "المؤثرون"، بل شركات علاقات عامة محلية/إقليمية، شبكات بوتات، وقنوات إعلامية تجارية تلعب دورا حاسما في تضخيم الرسائل
**
ثانيا: القاسم المشترك بين معارك اليمن الصغيرة
**
كل مغاوير وأبطال هذه المعارك معه ناظور نفقي — Tunnel View— ويصمم على أن يحشرنا داخل هذا الناظور وداخل هذا النفق.
كل أبطال هذه المعارك، معه حق ومنطق شرعي "قصير النظر".
كل هذه المعارك، معها سرديات خاصة بها.
كل هذه المعارك، لا تفيدهم ولا تفيدنا ولا تفيد اليمن.
كل هذه المعارك، تشتتنا وتضعفنا في الحشد للمعركة الوجودية المصيرية التي تجمعنا.
كل هذه المعارك، تدور في غياب سردية "دولة" الشرعية.
كل هذه المعارك يمكن أن تتوارى إذا وجد "القائد".
كل هذه المعارك، يمكن أن تذبل وحتى تنطفئ إذا قررت السعودية والإمارات.
**
ثالثا: كيف وصلنا إلى هنا؟
**
جراح وندوب اليمن الحديثة، هي التي أوصلتنا إلى هنا.
١- استعمال "الكروت"
*
انتصر الرئيس السابق صالح في معارك كثيرة ليبقى في الحكم ٣٣ سنة، وكل معركة تركت جراحا لم تندمل وندوبا تذكر المصابين بما حدث.
الرئيس صالح رجل "الكروت".
لبس قفازات كل شيئ واستعملهم "كروتا" مع تاريخ بداية ونهاية استعمال، لغرض واحد، هو: "البقاء".
استعمل "كروت" الأيدلوجيات والدين والقومية والوطنية والأفغان العرب ومحاربة الإرهاب والقبلية والأحزاب والوجاهات والأعيان والوحدة والانفصال والسعودية والعراق وقطر والإمارات وأمريكا وروسيا.
وأطلق الرئيس صالح على ضحاياه الذين استعملهم "كروت" إسم "الثعابين" ووصف نفسه بنفسه بأنه "الراقص على رؤوس الثعابين".
٢- تحالف "الكروت" الجريحة
*
وسمعنا المنادي:
يا "كروت" المُشقدفين، اتحدوا.
وتجمع تحالف لم يتصوره أحد ولا في عالم الخيال.
حدث في اليمن: تحالف الماركسية والناصرية والقبيلة والإسلام
وتمكن الضحايا "الكروت" من الإطاحة بالرئيس صالح.
٣- انتقام الرئيس صالح
*
الرئيس صالح، شخص عملي للغاية ويفهم اليمن جيدا وقد قرر أن ينتقم وأن يعود.
حدد أعداءه بأنهم: حليفه السابق حزب الإصلاح وحليفه التاريخي القبلي حميد الأحمر ورفيق عمره الجنرال علي محسن.
واتخذ الرئيس صالح القرار باستعمال أخطر "الكروت" في تاريخ اليمن: "كرت" الإمامة.
الحوثي، هو عدو صالح كما هو عدو من قرر الانتقام منهم.
أدخل الرئيس صالح الحوثي إلى صنعاء وسلمه الحرس والأمن والمعسكرات والصواريخ والقبيلة وطوق صنعاء.
هذه كانت أكبر نكسة في تاريخ اليمن.
كانت اليمن قد تخلصت من الإمامة فأعادها الرئيس صالح في ثوب الحوثية.
أشبع "الإمام" الحوثي شهوة انتقام الرئيس صالح بجندلة قبيلة حاشد وتشريد حزب الإصلاح وطرد حميد الأحمر والجنرال محسن.
٣- الحوثي يستعمل "كرت" إيران
*
أحضر الحوثي إيران واستعملها "كرتا" في اليمن.
وقررت إيران أن تستعمل الحوثي "كرتا" في اليمن.
"كرت إيران"، أحضر "كروت" السعودية والإمارات.
ثم قتل الحوثي الرئيس صالح.
"الكرت الجديد"، قتل لاعب الكروت.
"الثعبان الجديد"، قتل "الراقص على رؤوس الثعابين".
ثم تعلم الخليجيون اللعب والتلاعب بالكروت والثعابين اليمنية.
وأصبحت اليمن مدرسة بارزة في فنون استعمال "الكروت" وساحة "الرقص على رؤوس الثعابين".
وارتبشنا واعتمينا؛
… ولم نعد نعرف من يستعمل من؟ من هو اللاعب؟ أو الكرت؟ من هو الثعبان؟ ومن هو الراقص على رؤوس الثعابين"؟
وها نحن، الآن، نغرق في معارك بلا طعم ولا رائحة.
**
رابعا: بين الكروت والثعابين جاءت المواثيق الثلاثة
**
وسط ألعاب الكروت ولدغات الثعابين والرقص على رؤوس الثعابين، حصلت اليمن على ثلاث كنوز غالية.
عندما يجتمع اليمنيون فيما بينهم في ظل الندية، وبغير "النخيط" والتنمر والعيفطة؛
… فإنهم يستطيعون أن يكونوا من بني آدم ومن البشر ويتخلصون من اللعب بالكروت ومن لدغات الثعابين ومن الرقص على رؤوس الثعابين.
وقد اجتمع اليمنيون ثلاث مرات بهذه الهيئة وأنتجوا ثلاثة مواثيق:
١- وثيقة العهد والإتفاق
٢- وثيقة تأسيس تجمع أحزاب اللقاء المشترك.
٣- وثيقة مخرجات الحوار الوطني والدستور.
هذه كلها، هي نفس الشيئ.
ومهما اجتمعوا من جديد بندية وبدون سلاح، فسوف ينتجون نفس الوثيقة.
وهذه المواثيق— وحدها— هي التي يمكن أن نحقق الاستقرار في ظلالها.
**
خامسا: الخروج من مأزق اليمن
**
الكانتونات، ما هي إلا كروت ورقصات.
الميليشيات، ما هي إلا كروت ورقصات.
اليمنيون، الآن مجرد ""كروت" وهناك من يرقص فوق رؤوسهم من خارج البلاد.
اليمنيون، وحدهم، لا يستطيعون الحصول على "القائد" الواحد ولا الجيش الواحد ولا خوض المعركة الواحدة.
من المستحيل في الظروف الحالية أن يتوفق أو يتوافق اليمنيون على "القائد الواحد".
في البلاد التي حصلت على القائد الواحد أثناء اضطراباتها الكبرى، فإن هذا حدث عبر الدماء والحديد والنار.
مثلا، ماو تسي تونج في الصين، فيدل كاسترو في كوبا، هوشي منه في ڤييتنام.
في حالة اليمن، هذا دموي للغاية، وغير واقعي ولا إنساني ولا مستدام.
التخلص من زوابع كل هذه المعارك التي بلا طعم ولا رائحة بين "الكروت" و "الثعابين" و "الراقصين على رؤوس الثعابين"، يحتاج وجود "القائد" المقبول بموجب الوثائق الكبرى الثلاث:
(وثيقة العهد والإتفاق— وثيقة تأسيس تجمع أحزاب اللقاء المشترك— وثيقة مخرجات الحوار الوطني)
ولكن أكبر اللاعبين بالكروت وأبرع الراقصين على رؤوس الثعابين في اليمن— هذه الأيام— هم السعودية والإمارات.
بكل حسرة وكل أسف، اليمن تحتاج السعودية والإمارات للخروج من مأزقها.
وتحتاج السعودية والإمارات أن تدرك أنه لا فائدة لها من استعمال "الكروت" ولا "الرقص على رؤوس الثعابين".
حين يخرج اليمنيون من لعبة الكروت والثعابين، يمكنهم أن يعودوا إلى إنسانيتهم.
مصلحة السعودية والإمارات واستقرار المنطقة، تتحقق بالكامل عندما يتحقق استقرار اليمن.
عبدالقادر الجنيد
٤ اكتوبر ٢٠٢٥
تابع المجهر نت على X