منذ بداية الاضطرابات في ٢٠١١، وتعز تعبش في بؤس كامل ونصف فتنة مزمنة تشتعل من وقت لآخر لفتنة مكتملة قد تنتهي بحرب شوارع أو تخمد على هيئة توترات تحت السطح.
الفتنة الحالية، بدأت باغتيال افتهان المشهري قبل أسابيع.
**
أولا: مأساة افتهان المشهري
**
اغتيال مسؤولة النظافة وصندوق تحسين المدينة، في وضح النهار وفي ميدان عمومي داخل مدينة تعز.
صدمة، أرعبت تعز واليمن ووصل صداها إلى صحف وقنوات تليفزيون الدول المجاورة.
الرغبة في عقاب الجاني ومن يحميه وعلى كل ظاهرة البلاطجة المفصعين، كانت عامة ومن كل الجهات.
الأمل
*
وتصاعد الأمل عندنا كلنا إلى أن روح افتهان المشهري سوف تكون راضية إذا كانت مأساتها سوف تنقذ تعز من الفساد والمفصعين ومن انعدام سلطة المحافظ ومن ضعف إدارة الأمن وفراغ القوة.
الذي حصل
*
الذي حصل هو أن الأمل بأن ترتاح روح افتهان تحول إلى فتنة.
المطالبون بتحقيق العدالة، بلوروا القضية كلها وكل قضايا تعز العالقة الأخرى إلى تشخيص أن سبب كل المآسي، إنما هو حزب الإصلاح.
ما نحصل عليه الآن، من مخيم شارع جمال، يشبه مخيمات الحوثي التي نصبها حول جهات صنعاء الأربع بحجة رفع سعر البترول لإنهاء عملية سياسية انتقالية تحت رعاية الأمم المتحدة.
ولا يشبه مخيمات احتجاجات اعتصامات ٢٠١١ التي كانت بسبب انهيار الطبقة المتوسطة بعد ٣٣ سنة من حكم الرئيس صالح.
**
ثانيا: الكانتونات النص نص
**
ما يحدث في تعز، هو نسخة مما يحدث في الكانتونات اليمنية الأخرى التي لم تكتمل سيطرة جهة ما عليها بطريقة مطلقة على مفاصل الحكم والقوة.
هناك كانتونات، بمفاصل قوة غالبة حاكمة مثل كانتون الحوثي والضالع ولحج وعدن والمخاء ومارب وسقطرى.
هذه كلها كانتونات لا أحد يطمع بها من داخلها ولا من خارجها.
هناك كانتونات مثل المهرة وحضرموت وأبين وشبوة وتعز، توجد جهات سائدة ولكن بدون سيطرة مطلقة.
هذه الكانتونات النص نص، تغري المنافسين المحليين أو الخليجيين بتجربة حظوظهم في ملئ فراغ القوة أو على الأقل اقتطاع قضمة أكبر من الكعكة.
**
ثالثا: حزب الإصلاح في تعز
**
وهناك حزب الإصلاح في تعز.
قد تم القضاء على هذا الحزب في المناطق الحوثية والجنوبية من اليمن، ولم يعد له أي تواجد إلا في تعز ومارب.
وهناك رغبة في أوساط الكانتونات وأوساط التحالف بتهميش وجود حزب الإصلاح في تعز أو الخلاص منه كما حدث في المناطق والكانتونات الأخرى.
لقد تجنب حزب الإصلاح المواجهة في صنعاء عندما استولى عليها الحوثيون وكذلك قام بنفس عدم الإنجرار إلى مواجهة مسلحة عندما اضطهدوه وطردوه من الجنوب.
حزب الإصلاح، وضعه مختلف في تعز.
حزب الإصلاح، لن يتخلى عن مكانته في تعز.
للتخلص من حزب الإصلاح، سوف يحتاجون إلى حروب شوارع وتباب وتلال ووديان وجبال.
… ونحن كلنا لا نريد هذا.
والأهم من كل هذا أن هذه كلها زوابع في فنجان لسببين: الأول، أنه لا أحد داخل تعز مستعد يحارب حزب الإصلاح، وحتى لو باستطاعتهم فأنا شخصيا لا أريد أن ينتهي حزب الإصلاح في تعز بنهاية دموية.
وهذا بالضبط مثلما لم تعجبني من قبل نهايات الرئيس الحمدي ولا الرئيس الغشمي ولا عيسى وعبدالسلام مقبل ومحمد ابراهيم من الناصريين، ولا نهايات الأمين العام عبدالفتاح اسماعيل ولا الرئيس سالم ربيع علي ولا اجتثاث الحزب الاشتراكي من قبل الرئيس صالح ولا نهاية الرئيس صالح على يد الحوثي.
ألم نشبع من هذه النهايات؟
أما السبب الثاني فهو أنه إذا تمت مهاجمة تعز من خارجها— وهذا أيضا لن يحدث لأن المصانع والميناء قد تم لطشها— فسوف يتحد أهل تعز كلهم ضد الهجوم الخارجي بما يعنيه كل هذا من سكب دماء غزيرة بلا معنى.
حزب الإصلاح، هو كتلة متماسكة في تعز التي لم يعد بداخلها من يقدر أن يمسك أو يمتسك.
وأنا لا أعتقد بأننا يجب أن نتخلى عن كتلة متماسكة وحيدة تعيش بيننا بينما نحن محاطون بكل هذه الجبهات والجهات المختلفة الأشكال والألوان.
نحن لا نريد خوض معارك حزبية أو عقائدية أو سياسية بين أهلنا بينما نحن نخوض معاركة حربية ومحاولات للسيطرة علينا بقوة السلاح.
كلنا، قد تكون معنا مشاكل في اختلاف الرأي والسياسية مع حزب الإصلاح، ومع السلفيين، ومع الناصريين، ومع الاشتراكيين، ومع الليبراليين، ومع الرأسماليين، ومع من تشاء من العقائديين، ولكن هذا ليس وقتها.
واجب الرئيس:
*
وحل مشكلة الإختلاف على المصالح وتوزيع الأدوار والتجاوزات، هو واجب وحق ومهمة رئيس الدولة اليمنية.
واختيار المحافظ، هو أيضا واجب الرئيس.
ويجب أن تكون هناك شخصية ومهابة وقدرة لمحافظ تعز بالذات بأن يتعامل مع كل هذه الأطياف بثقة واحترام.
نحن- في تعز- لا نريد أن نحول خلافنا السياسي إلى دمائنا.
**
رابعا: حروب أهلية متكررة داخل تعز
**
نحن الآن، نسمع قرع طبول تكاد تصل للرغبة بإشعال شرارات وليحدث بعدها ما يحدث.
طبول على حافة حرب أهلية أخرى داخل تعز، مثل تلك التي حدثت أكثر من أربعة مرات حلال ال١٥ سنة الماضية.
حروب حدثت بعد اعتصامات ١١ فبراير، وبعد معارك شارع جمال، وعند بداية عاصفة الحزم السعودية، وحرب داخل المدينة القديمة بين حزب الإصلاح وأبو العباس قائد السلفيين، وحروب جبهات الحوثيين المدعومة ببعض أهل تعز.
هذه الحروب الأهلية داخل تعز وداخل اليمن، جعلتني أعود بذهني إلى أول حرب أهلية في الإسلام:
قميص عثمان… والحق الذي يراد به باطل.
مقتل عثمان بن عفان والفتنة الكبرى.
**
خامسا: استحالة المنطق في الفتنة الكبرى
**
هل كان يمكن استعمال العقل لحل المشكلة بين رفاق الصحابي معاوية وخصومهم رفاق الصحابي علي؟ أم أن المنطق كان مستحيلا؟
لو استُعمل المنطق فعلا…
**
كان يمكن أن يُتفق على تسلسل عقلاني بسيط:
١- أن تتم البيعة بطريقة مؤسسية أو شوروية واضحة، لا عبر تحكيمٍ مرتجلٍ بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري كما جرى في تلك الحادثة الشهيرة التي انتهت بارتباك أكبر وشقاق مريع مازال مستمرا حتى الآن بعد ١٤ قرن من الزمان.
٢- أن يُنشأ “مجلس شورى قضائي” محايدا من كبار الصحابة، ليكون هو المرجعية
٣- يُقبض على قتلة عثمان ويُحاكمون أمام الجميع ويتم التعامل مع المحرضين.
٤- بعد القصاص، تكون البيعة من الجميع لمن يأخذ أغلبية الأصوات أو إجماع المسلمين في تلك المرحلة.
المنطق كان ممكنا، لكن لم يكن مُتاحا.
أي أن الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية عطّلت قدرة الناس على التفكير العقلاني.
الأسباب التي جعلت المنطق مستحيلا عمليا:
**
١- الدم سبق الكلمة
*
مقتل عثمان كان فاجعة دامية، وأُريق فيها دم خليفة قُرشي، فاختلط الدين بالعاطفة بالقبيلة.
العقول حين تُلطّخ بالدم لا تعود قادرة على الهدوء.
٢- التحريض والانقسام القبلي
*
من قُتل عثمان بأيديهم لم يكونوا غرباء، بل من بعض القبائل التي لها نفوذ.
فصار كل طرف يخاف من أن يكون القصاص ذريعة لإبادة قبيلته.
٣- غياب مؤسسة للدولة
*
لم يكن هناك نظام قانوني أو إداري يُمكن الرجوع إليه؛ كانت الدولة في طور التكوين.
فحين غابت الدولة، غاب المرجع المشترك الذي يُحكّم المنطق.
٤- التنافس القديم على السلطة
*
الصراع بين البيت الهاشمي (علي) والبيت الأموي (معاوية) لم يبدأ يوم مقتل عثمان؛ بل كان كامنا منذ أيام قريش.
فالأزمة أطلقت ما كان مكبوتا.
٥- القداسة حول الصحابة
*
كل فريق كان يرى أنه على الحق المطلق، وأن خصمه يخطئ في الدين نفسه، لا فقط في السياسة.
وحين تدخل العقيدة في السياسة، يُقتل المنطق.
**
سادسا: عودة إلى الفتنة في تعز
**
نعود إلى خيمة الاعتصام في تعز.
هل يمكن استعمال المنطق؟
نفس نقاط الفتنة الكبرى تسري على استحالة استعمال المنطق في فتنة استعمال الدم الغالي لافتهان المشهري:
١- هناك دم افتهان المشهري الغالي الذي يعطل كل الكلام.
٢- هناك التحريض المناطقي بين قرى ومديريات تعز.
٣- هناك الصراع الحزبي والثارات العقائدية داخل تعز.
٤- هناك غياب مؤسسات الدولة.
٥- هناك تنافسات العهد السابق، واللاحق، والطامحون الجدد، والخليجيون، على السلطة داخل تعز.
٦- استدعاء القداسة على مبادئ الأحزاب وقادتهم الأموات والأحياء والباقيين، تقضي على اعتبارات السياسة والمنطق.
ما تراه في تعز اليوم هو تكرار حرفي للدرس الذي لم تتعلمه الأمة منذ ١٤ قرنا:
أن العدالة لا تُبنى بالغضب،
وأن الانتقام في غياب الدولة لا يعيد الكرامة، بل يفتح بابا لدم جديد.
وأن هذا التنابذ والتشاحن قد يؤدي إلى جفاء ومناطقية بين أهل تعز لعشرات السنين.
وأن الدولة الغائبة كان يجب أن تكون موجودة في تعز قبل وأثناء وبعد رحيل الغالية افتهان المشهري.
ما يحدث الآن في تعز، لا يفيد تعز.
**
سابعا: فتنة استعمال الدم
**
ما إسم ما يحدث الآن في تعز؟
يمكن تسميته بـ “فتنة استعمال الدم”.
حيث يتحول دم الشهيد من قضية عدل إلى وقود تعبئة، ورصيد سياسي، وسلاح تعبوي.
ولأن كل طرف يملك روايته الخاصة، ويعتبر نفسه حارس الحقيقة،
فلن يكون هناك مجال للمنطق إلا إذا:
١- هدأت حرارة الدم.
٢- انكشفت أهداف المستفيدين من تأجيج الشارع.
٣- وُجد صوت ثالث، غير المنخرط في الحزبية والمناطقية،
يتحدث باسم الإنسان والتعزي البسيط، لا باسم “الثأر” أو “الزعيم”.
**
ثامنا: روح افتهان لا تقبل بالسقوط في الفتنة
**
السلطة المحلية في تعز، تقول أنه قد تم قتل "الباسق" قاتل افتهان المشهري.
وقصص الشك والريبة بشأن مقتل القاتل "الباسق"، عديدة، وقد تكون أو لا تكون وجيهة، وبحثها يجب أن يكون واجب النيابة والقضاء.
المحافظ قد أوقف مصاريف الحملة الأمنية، لأنه لم يعد هناك غرماء للبحث عنهم.
الفتنة والاعتصام والاحتجاج مازال مستمرا.
والمنابذات والمشاجرات والمكايدات تأخذ طابعا حزبيا ورغبة بالاستمرار باستغلال الأحداث لتغيير موازين القوى المحلية.
زعماء "فتنة استعمال الدم" أضافوا قائمة طويلة من الجرائم المنظورة أمام القضاء، والجرائم التي قد هرب مرتكبوها، وقضايا احتلال المنازل من قبل أفراد الجيش أو "المقاومة" التي لم تعد موجودة.
ومرة أخرى، هذه كلها "حق يراد به باطل" و "فتنة استعمال دم"
**
تاسعا: انعدام اللياقة واللباقة
**
المنخرطون في فتنة استعمال الدم، يستعملون ألفاظا سيئة ضد من يحاول أن يستعمل المنطق.
ينظرون إلى أي صوتٍ يدعو إلى التروي والمنطق كأنه صوت خيانة أو تواطؤ.
اللغة هنا ليست مجرد وسيلة تواصل، بل سلاح نفسي واجتماعي.
السباب والشتائم في الفتنة له وظيفة محددة:
١- لإسكات المنطق:
*
الشتيمة تُغلق الحوار قبل أن يبدأ.
فبدل أن يواجهوا الحجة بالحجة، يهاجمون الشخص ليُضعفوا موقفه المعنوي.
٢- لإثبات الولاء للجماعة:
*
حين يشتم أحدهم من يعارضه، فهو في الحقيقة يقول لجماعته:
“أنا منكم، أنتمي إليكم، أكره عدوكم.”
أي أن الشتيمة تتحول إلى شهادة انتماء.
٣- لتبرير الغضب الداخلي:
*
الدم يثير مشاعر ثقيلة — حزن، غضب، عجز —
والسبّ يقدّم متنفسا سريعا لتفريغ هذا الانفعال،
فيبدو وكأنه نوع من “الراحة النفسية”، لكنه في الحقيقة يعمّق الانقسام.
**
عاشرا: الحل من عند الرئيس
**
عند أي مشكلة كبرى في اليمن، هناك أربعة محاور يدور حولها الكلام: السعودية- الإمارات- الكانتونات- الرئيس.
في مأساة افتهان المشهري، تلفتنا حولنا لنتأمل في أحوال المحاور الأربعة.
بالنسبة للسعودية والإمارات
*
السعودية، يمكن أن نُغيبها ونحن نبحث أمر المشكلة الجارية حاليا في تعز
… ولكننا قد لا نستطيع تغييب دور الإمارات.
السعودية، تحاول قدر الإمكان أن تعتزل تفاصيل شعبكات اليمنيين التي لا يأتي من بعدها إلى عدم تقدير ومس بالسمعة.
بينما الإمارات، قد خلقت أوضاعا ذاتية- خاصة في تعز- تمارس الصراعات تلقائيا بتعليمات من الإمارات أو بغير أي إرشادات أو توجيهات.
بالنسبة للكانتونات:
*
كانتون الحوثي يتفرج ومبسوط.
كانتون عدن، يتفرج ومبسوط.
كانتون المخاء، لا يكتفي بالفرجة.
ويبقى معنا الرئيس واختراع الدولة
*
نحن— في تعز— نعرف الرئيس فقط.
ولا تعجبنا الكانتونات.
ولا يعجبنا اختراع المجلس الرئاسي الذي يعطل اختراع الدولة.
الرئيس والدولة، كان يجب أن يكونوا مع والد افتهان المشهري من اللحظة الأولى ولا يتركونه ليستعمله الآخرون.
وكان يجب على الرئيس أن يتصرف مع قادة اللواء ١٧٠ من أول لحظة، لأنه في كل الدنيا يكون القادة مسؤولون عن سوء تصرفات أفرادهم حتى ولو لم يكن اللوم يقع عليهم، فما بالك إذا كان الخطأ قد سبب صدمة مروعة وقد يثير فتنة أهلية.
وكان يجب على الرئيس أن يضع تعز تحت المجهر، ويرى ما يمكنه عمله في تنظيم السلطة المحلية، وتعيين من يحرص على هيبة ومكانة وكرامة منصب المحافظ، ويتصدى لمسألة العبث بخدمات مياه الشرب ورغيف الخبز وكوم القمامة، مع الاجتهاد في كسب احترام وثقة عموم الناس من الأغلبية الصامتة.
وكان يجب على الرئيس النظر في نقص إمكانيات إدارة الأمن والشرطة العسكرية والنيابة العامة والقضاء.
نحن نعرف الأحوال المالية للدولة ولكن هذه أمور تأتي حتى قبل صرف الرواتب التي تدخل شهرها الرابع أو الخامس بدون دفع.
لا دولة بدون أمن أو سلم أهلي.
أصلا اختراع مفهوم الدولة وضمان عيشهم معا بالرغم من تناقضاتهم وأهوائهم وأطماعهم، هو وظيفة الدولة الأولى والعظمى.
وهذه رسالة أخرى جديدة مني للرئيس رشاد العليمي.
عبدالقادر الجنيد
١٨ اكتوبر ٢٠٢٥
تابع المجهر نت على X