الخميس 21/نوفمبر/2024
عاجلعاجل

إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة

على مدى أزيد من أربعة عقود تلت قيام الثورة الإيرانية في فبراير ١٩٧٩م، ثمة ما يشبه القطيعة – ظاهراً- بين إيران وإسرائيل، وحالة من العداء الشديد الذي لم يترجَم بعد إلى مواجهة حقيقية ومباشرة بين الطرفين، باستثناء هجوم ١٤ أبريل الجاري، لكن كل ما تحقق من هذا العداء هو نجاح الطرفين في ضرب خصمهما اللدود، عراق صدام حسين، كخصم مشترك لهما تم إسقاطه وإزالة دولة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، والمحافظة على أجزاء منها في سوريا بشار الأسد مع حزب أبيه، البعث العربي الاشتراكي السوري.
 
لقد أدار الإيرانيون والإسرائيليون معا علاقتهم بعضهم مع بعض بنوع من الذكاء والدهاء الشديدين، وهي العلاقة التي كانت في ظاهرها عداء صارما، ولكن في كواليسها الكثير من الصفقات، والتفاهمات غير المعلنة في نقاط عدة وملفات مختلفة، وفي أهم هذه الملفات ضرب وإسقاط دولة عربية وازنة وكبيرة بحجم العراق مثلاً، وتسليمها مباشرة للنفوذ والهيمنة الإيرانية  بكل مقدراتها، بعد أن نجح الغرب – والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً- في إسقاط نظام صدام حسين في نيسان/ أبريل ٢٠٠٤م، وهو الذي كان يمثل تهديداً حقيقياً لدولة الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين، كأول نظام عربي تجرأ على قصف إسرائيل.
 
بسقوط بغداد، وانتهاء حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، وبروز نفوذ إيران الكبير في العراق، تكشفت في المشهد أشياء كثيرة، من خلال تشكيل المليشيات الشيعية الكثيرة التي ظهرت على مسرح الأحداث في عراق بول بريمر، وتنفست إسرائيل الصعداء بسقوط أول نظام حكم عربي كانت تراه هي وإيران كمحط تهديد وجودي لهما، وتمكنتا من ضرب مفاعله النووي في عام ١٩٨٢، ودعمت إيران بصفقات أسلحة كبيرة مثل صفقة إيران كونترا الشهيرة، كأكبر فضيحة سياسية بين إيران وإسرائيل وأمريكيا، والتي زودت إسرائيل بموجبها إيران بصفقات كبيرة من الأسلحة في حربها ضد العراق.
 
لكن قبل هذا كله، صحيح أن نظام الشاه كان حليفاً حقيقيا معلناً لإسرائيل، وأن الثورة الإيرانية الخمينية جاءت وألغت هذا التحالف وأعلنت القطيعة مع إسرائيل، لكن القطيعة التامة ربما لم تحدث، وكانت صفقة إيران كونترا دليلا واضحاً على ذلك، فضلا عن ضرب المفاعل النووي العراقي في غمرة حربه مع إيران، لدرجة القول إن المخابرات الإيرانية هي التي زودت إسرائيل حينها بالمعلومات عن ذلك المفاعل.
 
واليوم بعد عشرية صراعية دموية، سقطت على إثرها دول عربية كبيرة ووازنة – عقب مشهد ثورات الربيع العربي- تحت تأثير وهيمنة النفوذ الإيراني، كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، والبقية في الطريق لذلك المصير ما لم يطرأ جديد ما، فقد تمكنت إيران من بسط نفوذها بالقوة بواسطة مليشيات تدين لها بالولاء المطلق في هذه البلدان التي خضعت لنفوذها، وبات الحديث عن أن تحرير القدس يمر من بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء شعاراً مكشوفاً.
 
ملايين اللاجئين العرب في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ومئات آلاف القتلى في هذه البلدان بأيدي مليشيات تابعة لإيران، تقول إن تحرير القدس ليس سوى شعار لتحرير البلاد العربية من أبنائها وأهلها أولا، ليُستبدل بهم شيعة الهزارا والطاجيك والأفغان والهنود وغيرهم، ممن جندتهم إيران لمشروعها بتسميات عدة، كـ”فاطميون” و”زينبيون” و”حسينيون”.. وهلم جرا من الأسماء الطائفية.
 
وبالمقابل أيضا، صحيح أنه تمت بعض المواجهات سابقاً بين بعض الأجنحة التابعة لإيران، كحزب الله اللبناني الذي دخل في مواجهة مع إسرائيل، على إثرها انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان عام ٢٠٠٦م، لكن هذه المواجهات مع إسرائيل أعقبتها حروب طاحنة، شاركت فيها هذه الفصائل والمليشيات التابعة لإيران ضد كل من الشعوب السوري والعراقي واليمني أيضا، وقُتل على إثرها مئات الألوف من العراقيين والسوريين، وشُرِّد الملايين منهم أيضا، ما جعل الحرب مع إسرائيل مجرد حروب تدريبية عابرة وخاطفة لا تكاد تذكر بجانب المجازر التي ارتكبتها هذه المليشيات التابعة لإيران في حق الشعوب العربية في سوريا والعراق واليمن أيضا.
 
أيضا، قد يقال إن إيران من أكبر الداعمين لحركات المقاومة الفلسطينية كحماس والجهاد الإسلامي، وإن هذا يعني أن إيران جادة في عدائها لإسرائيل، مع أن مثل هذا الدعم في جزء كبير منه يدخل في إطار تحسين سمعة إيران في العالم العربي، أكثر من أن يكون دعما حقيقيا تستفيد منه هذه الفصائل بشكل كبير، لأن هذه الفصائل هي صاحبة الدور الأكبر في إحداث كل ما أحدثته في سبيل القضية الفلسطينية، والدعم الإيراني لا يمكن أن يشكل شيئا يذكر بجانب ما تقوم به هذه الجماعات من أعمال كبيرة وبجهود ذاتية مع عدم نكران الاستفادة من الخبرة الإيرانية في هذا الجانب، لكن الخبرة الإيرانية ليست كل شيء هنا، بجانب إيمان هذه الجماعات بقضيتها وعدالتها والكفاح من أجلها، كما ظهر في عملية طوفان الأقصى.
 
بالعودة إلى موضوع العلاقة بين إسرائيل وإيران، صحيح أنه لا يمكن الحديث عن وجود علاقة مباشرة ومتفق عليها مسبقاً، لكن يمكن القول إن المسار الجيوسياسي للمنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً يشير إلى أن مساراً من الأحداث يجعل كلّاً من إيران وإسرائيل في وضعية حلفاء لا في وضعية أعداء، لأن الطرفين يريان أن المنطقة العربية هي منطقة نفوذ لهما، وأن بقاء هذه المنطقة ضعيفة ومفككة ومنقسمة كما هي اليوم هدف استراتيجي لهما، من أجل استمرارهما في تحقيق مشروعيهما القوميين، الإيراني والصهيوني، داخل جغرافيا العالم العربي.
 
ولا سبيل لتحقيق خارطة النفوذ واستدامتها لكلا الدولتين، إسرائيل وإيران، إلا من خلال ضرب فكرة الدولة الوطنية العربية من جذورها، وإعادة مجتمعات المنطقة العربية إلى مرحلة ما قبل الدولة الوطنية، مناطق ومشيخات وكنتونات مليشيوية مسلحة يقاتل بعضها بعضا، وهذا المسار هو الذي يجري اليوم في العراق وسوريا واليمن.. والأغرب أنه يتم تمرير هذا المشروع بأموال عربية خالصة .
 
ما نريد قوله هنا، إن الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على معسكرات مليشيات إيران في سوريا والعراق، والتي قُتل فيها العديد من قيادات الصفوف الأولى للحرس الثوري الإيراني، ابتداء من قاسم سليماني و”أبو مهدي المهندس” وصولاً إلى محمد رضى زاهدي، الذي لن يكون الأخير ربما.. كل هذا يأتي وفق تصور أمريكي إسرائيلي، يهدف لإبقاء قوات إيران ونفوذها في المنطقة العربية في حدود متحكم بها ومحددة مسبقاً، بحيث لا يمكن لإيران أن تخرج عن قواعد الاشتباك المعروفة بينهما، وتظل تعمل وفقاً للسيناريو الذي وُضع أو سُمح لإيران غربياً القيام به، كما هو قائم اليوم في العراق وسوريا من خلال مليشيات هدفها المركزي ضرب أي قوى سنية تحاول العودة مجدداً إلى المشهد، عدا عن قوى تعطيل لكل مسارات استعادة فكرة الدولة الوطنية العربية الجمهورية المنهارة في هذه المجتمعات.
 
وهنا قد يتبادر سؤال مهم هو: أين العرب من كل هذا؟ وهو سؤال مشروع ومهم في الوقت ذاته، والإجابة عليه باعتقادي واضحة اليوم تماماً، وهي أن العرب بعد سقوط العراق واليمن وسوريا، وإضعاف مصر وليبيا، أصبحوا مجرد أدوات ثانوية، وانقسموا لأداء وظيفة تاريخية سابقة، وهي وظيفة الغساسنة والمناذرة سابقاً على تخوم الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.. قومٌ في خندق المشروع الإيراني الفارسي، وآخرون في خندق المشروع الصهيوني المدعوم غربياً، ولا يمكن أن يفكر أي منهم خارج هذا الاصطفاف، مع أنه من خلال تجربة طوفان الأقصى فُتحت نافذة أمل كبير بإمكانية إحداث تغيير تاريخي ومفاجئ متى آمن العربي بإمكانياته وقدراته الخاصة، وعدالة قضيته.
 
بالمجمل، يمكننا القول إن إيران دولة وازنة في الإقليم، لها مطامحها ومشروعها، كما أن إسرائيل تماماً دولة وازنة لها مشروعها الخاص بها، وهما تتفقان على منع وجود وقيام تجربة ديمقراطية عربية في المنطقة، وتستمدان بقاءهما على حساب استلاب الأرض والكرامة والإرادة العربية، وبالتالي فإن كلّاً من المشروعين يستمد وجوده من وجود الآخر، وهما يتناغمان في كثير من محطات الصراع في المنطقة، ولا يمكن أن تندفع الدولتان إلى صدام شامل وكلي فيما بينهما لأن هدف كل طرف واضح، فإيران صراعها مع إسرائيل صراع مصالح ونفوذ لا صراع وجود، ومن ثم ستظل هناك نقاط مشتركة تجمعهما، وتُبقي علاقة التخادم قائمة بينهما.
 
وختاماً، ليس شرطاً في الحديث عن علاقة تجمع إيران وإسرائيل، أن تكون هذه العلاقة قائمة بروتوكولياً وفقاً لاتفاقات مكتوبة في ختام لقاءات رسمية موثقة، مع أنه سبق أن حصل مثل هذه الاجتماعات في باريس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بين الحسن بني صدر وبوش الأب، نائب الرئيس الأمريكي ريجين حينها، بمعية مسؤول المخابرات الإسرائيلي آري بن منشيه؛ وبموجبها عُقدت صفقة إيران جيت الشهيرة، ما يعني أن إمكانية الالتقاء والاتفاق ممكنة جداً، وأن كواليس المشهد تسع كل مثل هذه الافتراضات في ظل وجود لوبي إيراني نشيط وفاعل في الغرب، وفي ظل حاجة الغرب وإسرائيل إلى دور إيراني مكمل، يجيد إسقاط دول المنطقة العربية من داخلها، وبدون أي خسارة للغرب وإسرائيل.