أثير أخيراً جدلٌ كبيرٌ مع إعلان تأسيس وإطلاق ما سُمي مركز تكوين العقل العربي في القاهرة، والذي دشّن نشاطه الأول بمؤتمر عن طه حسين ونصف قرن من التنوير، والذي تقف وراء تأسيسه مجموعة من الكتاب والصحافيين والباحثين، في مقدمتهم إبراهيم عيسى والروائي يوسف زيدان وإسلام بحيري والباحث السوري فراس السواح، وغيرهم.
وبعيداً عن كل الجدل الدائر بشأن المركز ومؤسسيه وأفكاره ومموليه، والهدف منه، وهذا كله طبعاً محط تساؤلات الناس ومدار حديثهم عن الفكرة منذ لحظة إعلانها، وبعيداً عن ذلك كله أيضاً، يُطرح سؤال جوهري مركزي يفرض نفسه قبل أي حدث آخر هنا: ما التنوير عربياً؟
حديث التنوير ليس جديداً، فسؤاله قديم جديد ومتجدّد ودائم عربياً في ظل بقاء مجتمعاتنا العربية في دائرة الفوضى والتخلف والاستبداد، ولا يمكن الحديث عن تجديد وتنوير في مجتمعاتٍ لا يزال أهلها في صراع دائم من أجل لقمة العيش وأساسيات الحياة الضرورية من مأكل ومشرب ومسكن وعلاج وتعليم.
حديث التنوير والتجديد في مجتمعات ترزح شرائح واسعة منها تحت خط الفقر، وتفتقر لأدنى أساسيات العيش الكريم، يظل مجرّد حديث نظري عابر لا يجد له أنصاراً ولا أشياعاً ولا أتباعاً ولا مدافعين ولا معنيين، لان المدخل الرئيسي والجوهري والمركزي للفكر التنويري كان ولا يزال تخليص الإنسان من مخاوفه وتحريره من أوهامه وهمومه التي تكبله عن الانطلاق والإبداع وتجعله فريسة سهلة للظلم والاستبداد والقهر والحرمان، فلا يمكن الحديث عن التنوير، اليوم في عالمنا العربي، وهو الذي عانى وتعاني شعوبه الاستبداد والقهر والاستلاب والحرمان، ولا يزال المواطن العربي في ذيل قائمة الأمم تعليماً وصحةً وغذاءً وحقوقاً وحرية.
والمشكلة في العالم العربي اليوم أن هذه مرحلة بائسه جاءت بعد ثورة هي الأنقى والأعظم في تاريخه السياسي، ثورة الإنسان المقهور الذي خرج سلمياً متحدّياً الرصاص مطالباً بحقوقه وكرامته وحرّيته، فكل تنويرٍ لا يبدأ بتحرير المجال العام وتحرير السياسة هو أقرب إلى الدجل والشعوذة منها إلى أي شيء آخر.
ومشكلة عالمنا العربي تكمن في سؤال السياسة وسؤال الحرية، فلا تحرير ولا تنوير ولا تجديد بدون تحرير المجال العام، وفسح الطريق أمام الناس ليختاروا ويعبروا عن حريتهم وإرادتهم، أما القفز اليوم فوق هذا الواقع والذهاب إلى الحديث عن تنوير يهدم مكانة النص الديني، والقول إن المشكلة تكمن في دين الناس وتديّنهم فهذا قول فيه مغالطاتٌ كثيرة، ولا يستقيم مطلقاً أمام المنطق البسيط فيما يتعلق بواقع الناس ومشكلاتهم التي منبعها سلب حرّياتهم وإرادتهم.
القول إن التنوير مقصود به تحرير النصّ الديني من خاطفيه، باعتبار الدين مصدر كل الشرور، أقلّ ما يقال عنه إنه سطحي وساذج للغاية، وخصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي، فلم يكن الدين يوماً مصدراً لأيٍّ من أنواع الشرور والعنف، وإنما كان الدين في أغلب أوقاته، إن لم يكن كلها، مصدراً للتنوير والكرامة والحرية، ولم يكن إلا في حالات نادرة وشاذّة في صف الاستبداد، وهي حالات قليلة جداً ومعدودة في تاريخنا الإسلامي، التبس فيها على الناس مفهوما الدين والتديّن.
وقد حاولت كارين أرمسترونغ، في كتابها "حقول الدم، الدين وتاريخ العنف"، إثبات أن فكرة العنف الديني محض أكذوبة، أنتجتها الأنظمة الحاكمة عبر التاريخ لتبرير أفعال القمع والاستبداد. وانطلاقا من هذا الافتراض، توصلت أرمسترونغ، بمتابعة تاريخ البشرية، إلى أن التطرّف والعنف غالبا ما ينبعان من الاستبداد الذي هو المولد الرئيسي للتطرّف والعنف، وليس الدين، فرغبة القادة في الاستبداد كانت المحرّك الرئيسي وراء ارتكاب مذابح الحملة الفرنسية، والحروب النابوليونية، والحرب الأهلية الأميركية، والحربين العالميتين أيضا.
يقول تاريخ الفكر التنويري لنا إن قصة التنوير ليست سردية واحدة وتجربة واحدة يمكن استنساخها من مجتمع إلى آخر، فلكل مجتمع مشكلاته وحاجياته وقضاياه وسياقاته الثقافية، وبالتالي، لا يمكن استعارة الحلول نفسها من مجتمع إلى آخر، لأن لكل مجتمع سياقاته الثقافية ومشكلاته البنيوية المختلفة، ما يجعل ما يصلح في الغرب ليس بالضرورة يصلح في الشرق، والعكس هو الصحيح.
كان سؤال التنوير في المجتمعات الغربية تحرير السياسة من سطوة الكنيسة، التي كانت تتحكّم بكل شيء، ولا يقضى في شيء بدون عودة الملك إلى الكنيسة التي كانت تحتكر كل شيء، من صكوك الغفران حتى شرعية الملك، ما كبّل السياسة وجعل الملوك والحكام صدى لبابوات الكنيسة وتوجيهاتهم، التي كانت هي الآمر الناهي في الممالك الأوروبية، ما جعل غضب الناس كله يتوجّه نحو الدين الذي قدّمته الكنيسه بتلك الطريقة، وهو ما دفع خطيب الثورة الفرنسية الأشهر ميرابو، وكذلك فيلسوفها فولتير، أن يتبنيا شعاراً هيمن على كل شعارات الثورة الفرنسية بعد ذلك، وهو "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، في دلالة واضحة على أن علاقة الناس بالكنيسة وصلت إلى مرحلة فاصلة.
التنوير الغربي، من لدن جون كالفن مرورا بمارتن لوثر وكل الفلاسفة الكبار من نيتشه وهيغل وكانت، وغيرهم الكثير، كان ينصب في فك السياسة والدولة من يد سلطان الكنيسة وسطوتها الكبيرة على الدولة والمجتمع والسياسة، وهذا ما لا وجود له في تاريخنا وواقعنا العربي، حيث تحوّل الدين، ورجاله إن صحّ التعبير، إلى أدوات في يد الحكام والسلاطين، وحولوا الدين إلى مجرّد ذريعة لتبرير كل ممارسات المستبدين من الحكام والقادة، ما يجعل مشكلة الاستبداد السياسي أس الإشكال والتخلف في عالمنا العربي والإسلامي، وليس الاستبداد الديني. ولهذا نجد بالعودة إلى تاريخ التنوير العربي أن جُل قادة التنوير هم بالأساس قادمون من حقل التعليم الديني، كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم كثيرون ممن ساهموا بأفكارهم التنويرية في مقارعة الظلم والاستبداد السياسي، باعتباره المدخل الرئيسي لتحرير العالم الإسلامي من التخلف والانحطاط، وأن لا سبيل لذلك إلا من خلال تحرير المجال العام بالتحرير الذي يبدأ بتحرير الأذهان من التصوّرات المغلوطة فيما يتعلق بطبيعة الحاكم، وأنه مجرّد أجير لدى الأمة التي تمتلك مشروعية بقائه في منصبه من عدمه.
ما يقوم به اليوم أفرادٌ يطلقون على أنفسهم التنويريين العرب، وهم بلا أي موقف أخلاقي من الاستبداد ولا من الاحتلال والعدوان الصهيوني، يجلعنا نتساءل حقيقة عن أي تنوير يتحدّثون؟ وما هو التنوير الذي يدعون إليه إذا لم يكن لهم موقف واضح ورافض لكل أشكال الظلم والقمع والاستبداد والاحتلال والعدوان الذي ترزح تحته اليوم الشعوب العربية؟ عدا عما تعانيه غزّة اليوم، أي تنوير ذلك الذي يتجاوز هذا كله ويذهب إلى الاشتباك مع ما يسمونه الموروث الديني، ولا يملكون من أدواته شيئا، فضلا عن أن يكونوا أهلاً لموقف أخلاقي، هو عماد ومدخل أي تنوير حقيقي يُراد؟
ختاماً، ليست كتيبة التنوير التي برزت فجأة في هذه اللحظة العربية أكثر من مجرد كتبة ومخبرين في بلاط السلطات الحاكمة ويؤدّون دوراً مشبوهاً وملتبساً، يكشف طبيعة المهمّة التي يقومون بها في تجميل كل هذه القبح، متسترين خلف فكرة التنوير، ومنكشفون تماما وبلا أي موقف أخلاقي واضح مما يجري، بل هم من منظّري هذا الاستبداد، مروّجين له ومنحازين لحكام هذه اللحظة العربية شديدة القتامة والبؤس والانحطاط، ومساهمين في قتل الشعب العربي الفلسطيني ومنحازين للقتلة الصهاينة، بصمتهم وتماهيهم مع كل ما يقومون به، فأيّ تنوير بعد ذلك يقصدون؟ ذلك التنوير الذي جنوا عليه وقدّموه بهذا الصورة من التشويه.
*نقلاً عن العربي الجديد