اليمين الأوروبي يتقدم واثق الخطى، في عدد من البلدان الأوروبية، ومن حزب التجمع الوطني في فرنسا إلى «إخوة إيطاليا» لرئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، فحزب رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، إلى حزب الحرية اليميني النمساوي الذي قدم مشروع قانون لـ«إغلاق المساجد في النمسا» إلى اليمين المتطرف في إسبانيا، ناهيك على أحزاب اليمين في ألمانيا التي ترى أن «الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا» ونايجل فاراج الذي يرى أن المسلمين «لا يحترمون القيم البريطانية» وغيرهم في بلدان أوروبية مختلفة.
اليمين يتقدم إذن، والانتخابات الأوروبية التي أجريت في الفترة بين السادس والتاسع من الشهر الماضي لم تكن مفاجئة، مع اضطراد هذا التقدم في عدد متزايد من البلدان الأوروبية في السنوات الأخيرة، لأسباب اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية متعددة، مع ما تحمله هذه التوجهات من أفكار معادية للأجانب، والمسلمين منهم على وجه الخصوص، ورافضة للهجرة، ومتعصبة للعرقية البيضاء والتقاليد الأوروبية، رغم أن كثيراً من التوجهات اليمينية هي بالأساس ضد بقاء «الاتحاد الأوروبي».
وعلى الرغم من أن اليمين الأوروبي ـ في مجمله ـ قومي يركز على التقاليد أكثر من تركيزه على الدين، إلا أنه يستدعي المسيحية بوصفها «هوية دينية» لأوروبا، ضمن سياقات سياسية، وفي مواجهة الآخر المغاير لما يراه هذا اليمين «هوية مسيحية» لأوروبا.
«الهوية المسيحية» ـ إذن ـ هي الشعار اليميني المناسب لتجييش الجمهور المحتقن الذي يحاول اليمين توجيه احتقانه ضد الوجود المسلم في أوروبا، وهو الشعار الذي يرجع تاريخ توظيفه إلى عهد البابا أوربان الثاني الذي خطط لغزو الشرق المسلم، ولم يجد شعاراً أكثر بريقاً من تذكير الفقراء الكاثوليك في عموم القارة بأنهم مسيحيون، لكي يتم تجنيدهم إلى محارق الحروب الصليبية التي استمرت ضد الشرق المسلم مدة قرنين من الزمن، حيث أصدر أوربان الثاني ما سمي بـ«صكوك الغفران» ضمن فيها المغفرة والحياة الروحية الأبدية لكل من يذهب للحرب ـ باسم المسيح ـ إلى الشرق، ضمن سياق زمني يُعد بداية تاريخ تشكل ما يسمى بـ«الهوية المسيحية» لأوروبا.
وقد كان للحروب الصليبية أثرها البالغ ليس في إعادة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب وحسب، ولكن في إعادة تعريف العلاقة بين الدين والدولة من جهة، والعلاقة بين الممالك الأوروبية فيما بينها، من جهة أخرى. كما استمر أثر تلك الحروب، فيما بعد فترة الحروب الصليبية، على المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا لفترة طويلة، مع ترسخ ما بات يعرف بـ«الهوية المسيحية» لأوروبا، وهي الهوية التي يريد اليمين الأوروبي اليوم إعادة التأكيد عليها، مع العلم أن تلك الهوية نتجت عنها «الحروب الدينية» التي تخطتها أوروبا بالخروج إلى «الدولة القومية» الحديثة، وهو ما يعكس تناقض طروحات هذا اليمين الذي يؤكد على هوية دينية أوروبية تناقض أهدافه في استعادة «الدولة القومية أو الوطنية» من قبضة الاتحاد الأوروبي.
ومع انغماس الأوربيين اليوم في الحياة المعاصرة وروتينها المادي المتخفف من المحتوى الروحي، يتذكر اليمين الأوروبي هوية القارة المسيحية، يتذكر تلك الهوية عندما يشعر بوجود الآخر، والآخر الإسلامي على وجه التحديد. ويتحدث اليمين عن الميراث المسيحي لأوروبا، ونسمع شعارات من مثل: «هذا بلد مسيحي» لمتظاهرين مؤيدين لحزب الإصلاح اليميني البريطاني بزعامة نايجل فاراج، رغم أن 46٪ فقط من البريطانيين قالوا إنهم مسيحيون في استطلاع رأي إحصائي أجري نهاية العام 2022.
وإذا كانت فكرة «أوروبا المسيحية» تشهر اليوم في وجه الوجود الإسلامي في القارة، فإن هذه الفكرة كانت ـ خلال العصور الوسطى ـ موجهة ضد اليهود، على اعتبار أن وجودهم في أوروبا كان يشكل خطراً على مسيحية تلك القارة، وأنهم يمكن أن يكونوا عملاء للمسلمين «الكفار الذين يحتلون الأراضي المقدسة» في فلسطين، حيث قضت عدد من القوانين الكنسية والمراسيم الملكية إما بطرد اليهود، أو بمنعهم من دخول هذا البلد الأوروبي أو ذاك، بما أن «أوروبا المسيحية» كانت تعني تلك التي تعادي اليهود، استناداً إلى نصوص مسيحية، كانت السبب وراء الاضطهاد الذي عانى منه اليهود في «أوروبا المسيحية» طول فترة العصور الوسطى، وحتى العصر الحديث.
واليوم يدق اليمين الديني الأوروبي نواقيس الخطر، للتحذير من «الغزو الإسلامي لأوروبا» مذكراً بمسيحية القارة، لا عن تدين حقيقي، ولكن رغبة في تشكيل إطار أيديولوجي ديني لكمٍّ هائل من العنصرية والتعصب والكراهية التي تروج لها تيارات اليمين المتطرف على أسس عرقية غير دينية، ولكنها تغلفها بأغلفة مسيحية لأغراض متعددة، حيث لا تتذكر تلك التيارات اليمينية أن أوروبا مسيحية إلا عندما تريد استغلال المسيحية في دعاياتها الانتخابية، وهجماتها العنصرية، ضد الوجود الإسلامي في القارة.
ورغم تذرع اليمين الأوروبي بالقيم العلمانية في خطابه الموجه ضد الإسلام في أوروبا، إلا أن هذه القيم العلمانية لا تصمد كثيراً، عندما يتحدث هذا اليمين عن «التقاليد المسيحية» في أوروبا. وهنا يمكن الحديث عن نوعين من أوروبا في خطاب اليمين المتطرف: «أوروبا العلمانية» التي يريد اليمين من خلالها الانطلاق لمواجهة الوجود الإسلامي على أساس أن المظاهر الإسلامية تخالف القيم العلمانية الأوروبية، ثم «أوروبا المسيحية» التي يخفف هذا اليمين من التزامه العلماني عند الحديث عنها، في مؤشر على نوعية العلمانية التي يقصدها هذا اليمين الذي يريد أن يكون علمانياً في تعامله مع الإسلام، ومسيحياً في توظيفه للمسيحية.
يحلو لليمين الأوروبي ـ إذن ـ أن يكون علمانياً في رفضه للوجود الديني الإسلامي في «أوروبا العلمانية» كما يحلو له أن يكون مسيحياً في رفضه لهذا الوجود في «أوروبا المسيحية» في تناقض لا تقدر عليه إلا تلك التوجهات الشعبوية التي تعرف مسبقاً أن «الجمهور» لا يقف كثيراً على حجم التناقضات والمغالطات التي تروج لها، بما أنها تستخدم تكتيكات «سياسة القطيع» في خطاباتها الشعبوية للجماهير التي لا تأبه كثيراً للمنطق وقواعده.
ومع أن التوجهات اليمينية في أوروبا تركز خطابها ضد الإسلام، ومع أنها تريد ربطه بالمهاجرين على اعتبار أنه دين وافد وغير أصيل، ضمن النسيج الثقافي والاجتماعي «الأبيض» إلا أن الحقائق التاريخية تؤكد أن عمر الإسلام في لتوانيا والبوسنة والهرسك وبعض مناطق البلقان ـ مثلاً ـ يزيد على ستة قرون، وأن المسلمين هناك هم من السكان البيض الأصليين، وليسوا من المهاجرين.
مهما يكن، فيبدو أن أوروبا تتجه يميناً بشكل مضطرد، يظهر ذلك في نبرة الخطاب السياسي والديني، أو السياسي المتكئ على الدين، كما يبدو في مؤشرات مراكز قياس الرأي العام، واستطلاعات الرأي، وقد بدا ذلك جلياً في نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة.