السبت 23/نوفمبر/2024
عاجلعاجل

‏استقر الرأي الشائع على أن خروج الحسين بن علي ضد معاوية ويزيد كان رفضا لمبدأ توريث الحكم.

لكن اللافت هنا أن الخارجين على مشروع التوريث الأموي كانوا أصحاب أول مشروع توريث في الاسلام.

فعلي كان يؤمن بأحقيته في الحكم لقرابته من الرسول، وبعد مقتل علي ورث حسن السلطة عن والده لعدة شهور، ثم بعد ذلك خرج الحسين على الحكم بحجة رفض توريث الحكم من معاويه لابنه يزيد مع أنه الحسين كان يؤمن بأحقيته بالحكم بعد والده!

لم ينجح مشروع التوريث الطالبي في البداية لافتقاره للقوة اللازمة ولعجزه عن فهم حركة التاريخ، وهذا ما نجح فيه المشروع الأموي.

لكن مشروع التوريث الأموي لم يكن بنفس خطورة مشروع التوريث الطالبي.

فقد اختفى بنو أمية من التاريخ بسقوط دولتهم، بينما لا زال مشروع التوريث الطالبي يفجر المجتمعات حتى هذه اللحظة.

 

وبما أن فكرة زهد علي بن أبي طالب في المال والسلطة واسعة الانتشار لنناقشها سريعا.

 

لنبدأ بالسلطة!

المعارك الثلاث الرئيسية في الفتنة الكبرى هي (الجمل، وصفين ، والنهروان) . ولا أظنها مصادفة أن علي كان الطرف الأول في كل هذه المعارك والباديء بالقتال.

كان الباديء بالقتال في معركة الجمل ولحق بعائشة وبالصحابيين الزبير وطلحة الى البصرة وقتلهما وساهم في سفك دماء مئات المسلمين الذين لم يخرجوا لقتاله وانما طالبوا بالقصاص من قتلة عثمان.

ولم يكن علي قادرا على معاقبة قتلة عثمان لانهم كانوا أساس جيشه وخاضعا لقوتهم.

وكان طلحة الزبير قد تراجعا عن بيعتهما لعلي لأنها بيعة تمت تحت تهديد الثوار من قتلة عثمان، فلما غادرا المدينة أحسا بالأمان لنقض بيعة الإكراه.

 

وكان علي هو الطرف الأول والباديء في معركة صفين عندما توجه بجيشه نحو الشام لقتال معاوية وإرغامه على القبول بحكمه. ونحن نعرف تفاصيل المعركة التي بالغت بعض رواياتها وتحدثت عن سبعين ألف قتيل.

ولم يكن معاوية في ذلك الوقت طالبا للخلافة، وانما رفض مبايعة علي قبل أن يقتص من قتلة عثمان. وكان يرى ضعف علي في معاقبة القتلة من الثوار مؤشرا على عدم صلاحيته للحكم.

 

كان علي أيضا الطرف الاول في معركة النهروان ضد الخوارج. والخوارج كانوا في صف علي لكنهم انشقوا عنه بسبب سوء إدارته لمعركة صفين. ولم يكن سهلا أن يتسامح علي مع هذا الانشقاق فقاتلهم وقتل المئات منهم بعد أن رفضوا العودة لصفه.

 

يتفق كل المؤرخين على ان الفتنة الكبرى كانت أسوأ ما مر بالاسلام الأول من تحديات واكثرها دموية. لكنهم ، تحت دافع التشبع العاطفي والسياسي، تغاضوا عن شهوة السلطة عند علي التي قادت معارك الفتنة الكبرى. ولو أقر علي بعدم صلاحيته للحكم، وترك الامر شورى لاختيار خليفة قوي لا يكون مرتهناً للثوار من قتلة عثمان ,لكان لتاريخ الاسلام مسار آخر.

 

يؤمن السنة والشيعة معا أن عليا رابع الخلفاء الراشدين ويذهب حتى بعض السنة إلى أنه افضلهم. 

لكن قراءة أحداث التاريخ المدون تقول إن علي لم يكن أبدا الخليفة الراشد الرابع وأن الخلفاء الراشدين، بالمفاهيم التراثية المعروفة للرشد، كانوا ثلاثة فقط هم ابوبكر وعمر وعثمان.. 

 

فقد تم تعيينهم باجماع الارستقراطية القرشية بناء على الأسبقية في الإسلام والوضع القيادي ضمن قريش والتفاني في خدمة الإسلام منذ بدايته. أما علي فلم تجمع عليه الارستقراطية القرشية ورفضه أغلب اهل الشورى المعنيين ب"انتخاب" الخليفة.

 

قبل وفاته، وصع عمر بن الخطاب نظاما بسيطا لاختيار الخليفة عبر تصويت أهل الشورى الستة: عثمان، علي، طلحه بن عبيدالله، الزبير بن العوام ، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن عوف. 

توفي بن عوف في خلافة عثمان ، ولم يبق من أهل الشورى الا أربعة هم علي وسعد وطلحة والزبير. وتجمع أغلب الروايات على أن اهل الشورى الثلاثة المتبقين لم يبايعوا عليا، وبالنالي تسقط عنه صفة الشرعية أو الرشدية.

 

ولأن طلحة والزبير بابعا بالإكره وسيوف الأشتر وبقية الثوار على اعتاقهم، نقصا بيعتهما ما أن غادرا المدينة وأمنا شر الثوار من قتلة عثمان.

إذا هناك اجماع كامل من اهل الشورى على عدم أهلية علي للحكم.

لم يتم اختيار علي بالشورى، لهذا حاول الوصول الى الحكم بالقتال. وكان مضطرا الى التحالف مع قتلة عثمان لاكتساب شرعية القوة والغلبة بعد ان فقد شرعية الاختيار.

 

ومما زاد الطين بلة أن علي بعد محاولة استيلائه على الخلافة بالقوة ارتكب خطئين أثارا ضده نخبة الصحابة.

الأول انه رفض محاسبة المتورطين في مقتل عثمان واقامة الحد عليهم مخالفا بذلك حكما شرعيا واضحا.

والثاني انه أقال حكام الولايات الذين عينهم عثمان وولى بدلا عنهم ولاة ولغوا في سرقة المال العام دون ان يحاسبهم أيضا.

..وهذا تأكيد على غياب القدرات القيادية عنده مما جعل كبار الصحابة يبتعدون عنه أيضا.

 

نخلص من هذا الى أن علي لم يكن الخليفة الرابع، ولم يكن خليفة من الأساس لأنه لم يحكم الا رقعات بسيطة من خارطة دولة الاسلام آنذاك.

 

أما الخلفاء الراشدون فهم ثلاثة فقط.

والخلافة لم تنقلب الى ملك ، وانما انتهت وتفككت وتحولت الى فوضى، ليلتقط معاوية اللحظة ويؤسس الامبراطورية الاسلامية .

 

ليس الهدف من كلامي الانتقال من التأليه إلى الشيطنة، وانما المساعدة على تكوين رؤية نقدية لشخصية محورية في الإسلام في الماضي والحاضر... 

شخصية مركبة من الخير والشر ظلمتها السرديات بالصورة المثالية المستحيلة في عالم البشر.

 

في غفلة من زمن القرن الماضي قرر اليسار العربي قراءة التاريخ الإسلامي قراءة ماركسية.

فقالوا أن الصراع كان بين اليمين واليسار وبين الجماهير الكادحة والمستغلين.

معاوية يمين وعلي يسار. يزيد يمين والحسين يسار. عمار وبلال وخباب جماهير كادحة، وابو بكر وعمر وعثمان ارستقراطية مستغلة. 

الأشعرية يمين، والمعتزلة يسار. المرجئة رجعيون، والخوارج يسار ثوري.

 

توسعت عملية التنبلة اليسارية( تنبلة كلمة فصيحة تعني الكسل والتبلد) لتصب تدريجيا في ساقية التشبع لآل البيت.

وصار علي هو لينين والحسين جيفارا وبقية ائمة خرافة آل البيت طلائع الثورة ونصراء البروليتاريا.

 

ساهمت التنبلة اليسارية في ترسيخ خرافات التشيع بألوان ماركسية. ووقع مثقفون كبار مثل حسين مروه وحسن حتفي، وأدباء كبار مثل عبد الرحمن الشرقاوي في حفرة التشبع اليساري.

 

نسي التشبع الماركسي أن علي وأولاده والأرستقراطية الهاشمية كانوا جزءا من الطبقة المسيطرة على السلطة والثروة في الامبراطورية الوليدة. وأن أموالهم وعطاياهم كانت نتاج نهب خيرات واستغلال فقراء البلدان المفتوحة . وأن لينين وجيفارا وتروتسكي آل البيت أثروا من عطاءات بيت المال وغنائم البلدان المفتوحة وتوسعوا في امتلاك المساكن والزوجات والجواري، وأن الصراع بينهم كان صراع الأغنياء ضد الأغنياء.

 

لكن فيروس التشيع الماركسي انتشر وحول مئات الشعراء والمثقفين والفنانين الى دراويش عند آل البيت. ملحدون لكنهم مؤمنين بالاصطفاء الإلهي لعلي. وثوريون لكنهم مقتنعين بحكم البطنين الثوري البروليتاري.

 

والأدهى انهم نشروا التشيع حتى بين المسيحيين العرب، وصار لدينا مسيحيون ماركسيون متشوقون لعودة الإمام الغائب أكثر من شوقهم لعودة المسيح.

 

ضرب فيروس التشيع الماركسي اعدات التفكير عند الناس. وحلت سفينة النجاة محل الحتمية التاريخية، وحديث الكساء محل البيان الشيوعي، وحادثة الغدير محل الثورة البولشفية ، وعنصرية السلالة محل الصراع الطبقي الذي سيقود إلى المجتمع المثالي الذي يركع فيه الكادحون لتقبيل اقدام أبناء الإله.

 

طه حسين، رحمه الله، كان يقول أن "الخلافة" ليست نظام حكم اسلامي لكنها نظام حكم عربي استنسخت التجربة العربية في تعيين شيخ القبيلة اعتمادا على الأصلح وبأصوات "الملأ" أو علية القوم.

والشورى كانت نظاما عربيا/قرشيا معروفا في شكل "ديمقراطية الأغنياء" وحقهم الحصري في انتخاب رئيس القوم.

عندما طالب علي بن ابي طالب والعباس بحقهم في السلطة كانوا في البداية يفكرون في نفس الاطار العربي للحكم لكن ضمن الشكل الوراثي (انتقال الحكم ضمن نفس العائلة). لكن تاريخ قريش الطويل في الشورى جعل حظوظهما ضعيفة.

بعد مصرع علي والحسين كان الحل هو الخروج من التقاليد العربية للحكم (الشورى، الوراثه) إلى التقاليد الدينية "الملك-الإله" التي عرفتها الشعوب الشرقية، وتم اختراع فكرة الإله الذي يوصى بالسلطة إلى عائلة معينة ويصطفيها من بين كل البشر لتحكم نيابة عنه (الغدير). 

هذه العائلة نصف بشرية ونصف إلهيه. هي كلمة الله (العترة، قرين القرآن، القرآن الناطق)، الذي هو وحي متحرك، ونصف إله معصوم ومقدس.. وكانت هذه هي فكرة "الإمام، الولي، العلم" عند الشيعة.

في صيغة الملك-الإله (علي، الحسين، آل البيت) الشرط الأول للايمان ليس الإيمان بالله، وانما الإيمان بالإمام ومحبة "الآل". والهداية ليست مرتبطة بالسلوك الإسلامي الصحيح وانما باتباع "أعلام الهدى" وطاعتهم.. 

الإسلام في هذه الصيغة هو دين العائلة المقدسة..نصف الإلهية.. طبقة الكهانة الواسعة والممتدة التي تتوسط بين الله وبين البشر وتقودهم نحو الإيمان الصحيح.

 

الصانع الأول لأسطورة الوصاية الإلهية، حسب الجابري، هو "المختار الثقفي".

شيخ قبلي طموح سياسيا وذو رؤية ثاقبة لكيفية حشد الناس وتعبئتهم.

وسياسي نفعي يقفز من النقيض للنقيض لتحقيق حلمه.

كان يتحدث للناس مستخدما سجع الكهان وروج لفكرة الوصي والرجعة ووراثة الأئمة للنبوة ومعرفة الإمام بالعلم الخفي والمستقبل وأدعى ان الله يكلمه.

بمهارته في استخدام الرموز،حول عاشوراء من حادث لا قيمة له ولا لشخوصه إلى ذكرى دائمة.

واستوحى فكرة الحاكم الأله من الثقافان الشرقية وأسلمها.

حلل الجابري في "العقل السياسي العربي" كيف أسست حركة المختار الثقفي ل"ميثولوجيا الإمامة" مستخدما خليطا من اليهودية والغنوصية وافكار ديانات فارس القديمة محولا السلطة إلى عقيدة، وآل البيت إلى أنصاف آلهة، وعاشوراء والغدير إلى شماعة للطموح السلطوي.

كان هدف المختار استخدام التشيع وافكار الوصاية والرجعة وسيلة لخدمة طموحه اللامتناهي للسلطة لكنه قُتل قبل ذلك.

واستمرت الفكرة القاتلة متخفية داخل الفقه والشريعة والسياسة.

 

تفاجأ كثيرون بالتصريح المنسوب لخامنئي حول أن "الأئمة أعلى مقاما من الأنبياء".

وأنا متفاجيء من تفاجئهم بشيء معلن وموثق ومصرح به بشكل شبه يومي.

 

فسدنة خرافة الولاية يرون أن النبي مجرد وسيط بين الخالق والمخلوق في إيصال الوحي، أما الإمام فهو النائب عن الله تعالى في قيادة المجتمع وهدايته.

 

وعندهم أن ابراهيم كان نبيا في البداية ثم بعد ذلك ترقى وأصبح إماما، وهذا دليل عندهم على أن مقام الإمامة أعلى!

 

يفسر الشيعة آية "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " أنها امر من الله للوسيط محمد بتبليغ الناس بوصاية علي التي هي جوهر الاسلام ولا يكتمل الدين إلا بها.

فمهمة النبي البلاغ فقط، أما مهمة الإمام قيادة الناس وتوجيههم وضمان إيمانهم الذي لا يصح إلا باتباعه.

 

عند الخو..ثية، الرسول بلغ القران أما الإمام فهو قرآن ناطق، وقرين القرآن، وله الولاية التكوينية (التصرف في الكون) والولاية التشريعية (تشريع الحلال والحرام).

 

رفع الإمام مرتبة أعلى من النبي كان نتيجة للخيبة الطويلة عند البيت الطالبي للوصول الى السلطة. في العصرين الأموي والعباسي تعرض الطالبيون لمذابح مستمرة نتيجة انتفاضاتهم التي لا تتوقف ضد الخلفاء تحت عذر انهم الأحق بالحكم لأنهم ورثة الرسول. 

وكان كل فشل سياسي يعوض على المستوى الديني. 

يُقتل الطالبي الطامح للحكم فتلجأ الايديولوجيا الشيعية لرفعه إلى ما فوق مرتبة البشر. يفشلون مرة أخرى فترفعهم الايديولوجيا الى مستوى الانبياء. يفشلون اكثر فترفعهم الايديولوجيا الى ما فوق مستوى الانبياء.

كلما تعمق الفشل السياسيي بالغت ايديولوجيا الوصاية والولاية في رفع مرتبة "الإمام" حتى صار الامام هو كل الإيمان. 

في مراحل معينة صار الامام نفسه أهم من الله. فالله خلق الكون من أجلهم ويشغل نفسه ليل نهار لارضائهم وضمان محبتهم!

 

حراس خرافة الوصاية يطرحون الاسلام كدين عبادة أشخاص. 

الولاء فيه لأشخاص، والعقيدة فيه عقيدة في أشخاص. والإيمان هو طاعة هؤلاء الأشخاص.

 

ويعض الخرافات لا تترك لك مجالا للحلول الوسط!

 

تلعب خرافة الوصاية على تضخيم عقدة الشعور بالذنب وتحقير الذات عند اتباعها بسبب خذلان آل البيت وخذلان الحسين!

وتحقير الذات هو طريقها لاستعبادهم ومصادرة عقولهم واستغلالهم في مشاريع الموت الطائفي .

وصار فشل البيت الطالبي في الوصول للسلطة بسبب عجزهم الذاتي هو الخنجر الذي يغرسه حراس خرافة الولاية في قلوب المسلمين عموما واتباعهم خصوصا.

 

لم يكن مقتل الحسين غير حادث سير عادي في تاريخ ضخم لامبراطورية عالمية حتى لو أراد حراس خرافة الوصاية تحويله الى بداية أو نهاية التاريخ.

ولم يكن الحسين اكثر من رجل طموح دفعته نرجسية "ابن الرسول" لمنازعة السلطة مع امبراطور كانت قواته تتمد د في ثلاث قارات.

 

ارتبط المسيح بالفداء، مثلما ارتبط الحسين بالفداء. لكن هناك فارقا جوهريا بين الفدائين.

لقد مات المسيح فداء للمؤمنين به، وخلص العالم من عبء الخطيئة، حسب التصور المسيحي. لهذا، ليست هناك حاجة لأن يموت المسيحيون أو يستشهدوا فداء للمسيح، فدم المسيح فداء لكل الدماء.

 

أما بالنسبة للحسين، فالأمر مختلف. لقد مات الحسين لأن أنصاره خذلوه ولم يفدوه. 

لهذا، لابد لأتباعه أن يكفروا عن خطيئتهم الأبدية، وهذا التكفير لا يكون إلا بالموت والاستشهاد. أخذ “ثأر الحسين” وتقديس فكرة الموت والشهادة. فكل شخص يؤمن بالحسين يجب أن يموت تكفيرا عن خطيئة خذلان كربلاء.

 

حادثة كربلاء والمنطقية عي "الخطيئة الاصلية" لدين آل البيت التي يرفضون تحمل مسؤوليتها ويلقون بدمائها على وجوه المسلمين قرنا بعد قرن.

 

الفارق بين الفدائين هو الفارق بين الحياة والموت. فعقدة الذنب الوهمية تغرق اتباعها في مصيدة الموت والدم، ولن يخرجوا منها إلا بالخلاص من عقدة الفداء القاتل التي زرعتها أساطير الولاية والشهادة والإصطفاء والوصاية.

 

وكم من حياة سننقذ لو نسينا حادث الوفاة العرضي في تاريخ مليء بالأحداث الملهمة.

 

الشخصية المثالية، الإنسان الكامل، في الوعي الإسلامي ليس الرسول… بل علي بن ابي طالب!

لقد نقلت كتب السنة بعض الأخطاء المنسوبة للصحابة وحتى للرسول مثل عبوسه في وجه الأعمى، وخطئه في تأبير النخل وغزوة الخندق، وغضبه السريع في بعض المواقف مثل حادثة الإفك... 

أما علي، بالمقابل، فهو الشخصية المتكاملة، حسب ما قدمتها كتب التراث السني والشيعي، الشخصية النقية الكريستالية المثالية الخالية من العيوب.

لا أريد هنا التطرق لمسألة ان صناعة الصورة المثالية لعلي وأولاده تمت في نهاية العصر الاموي وبداية العصر العباسي كنوع من المقاومة السياسية ضد التسلط الاموى من ناحية والتسلط العباسي من ناحية اخري.

لكن نظرة نقدية بسيطة للأحداث المرتبطة بعلي كما ذكرتها كتب التراث نفسها تكشف لنا عن شخصية مختلفة تماما لا تقل طمعا في السلطة عن معاوية ولا سفكا للدماء عن يزيد.

فطمع علي في السلطة كان مبكرا جدا منذ وفاة الرسول مع أنه لم يكن يملك أي مؤهل للحكم مقارنة بكبار الصحابة إلا قرابته من الرسول. 

ولم يكن علي يتمتع بأي نوع من الذكاء السياسي او القدرات القيادية التي تمكنه من قيادة الدولة التي تتحول بسرعة إلى امبراطورية.

يؤمن السنة والشيعة معا أن عليا من الخلفاء الراشدين ويذهب بعض المغالين إلى أنه افضلهم. لكن قراءة أحداث التاريخ المدون تقول إن علي لم يكن أبدا الخليفة الراشد الرابع وأن الخلفاء الراشدين، بالمفاهيم التراثية المعروفة للرشد، كانوا ثلاثة فقط هم ابوبكر وعمر وعثمان.. 

فقد تم تعيينهم باجماع الارستقراطية القرشية بناء على الأسبقية في الإسلام والوضع القيادي ضمن قريش والتفاني في خدمة الإسلام منذ بدايته. أما علي فلم تجمع عليه الارستقراطية القرشية ورفضه أغلب اهل الشورى المعنيين ب"انتخاب" الخليفة.

ومما زاد الطين بلة أن علي بعد محاولة استيلائه على الخلافة بالقوة ارتكب خطئين أثارا ضده نخبة الصحابة.. الأول انه رفض محاسبة المتورطين في مقتل عثمان واقامة الحد عليهم مخالفا بذلك حكما شرعيا واضحا، والثاني انه أقال حكام الولايات الذين عينهم عثمان وولى بدلا عنهم ولاة ولغوا في سرقة المال العام دون ان يحاسبهم أيضا.

يرد البعض ذلك إلى أن علي كان خاضعا "للثوار" ولم يكن يجرؤ على محاسبتهم وإلا فقد القاعدة الجماهيرية التي استند اليها للقفز الى الحكم..وهذا تأكيد على غياب القدرات القيادية عنده.

كان علي يرى أن السلطة ميراث عائلي لبني هاشم، وهو مؤسس جذور الهاشمية وتحويل الإسلام إلى دين عائلي. لهذا فقد خرج أولاده من بعده ليطالبوا بحقهم في الخلافة (دون ان نعرف من أين اكتسبوا هذا الحق)، بينما لم نسمع أن ابناء ابي بكر او عمر او عثمان طالبوا بحقهم في الخلافة بعد وفاة آبائهم.

 

دائما ما يقدم معاوية باعتباره الشخصية النقيضة لعلي، لكن التاريخ المدون يقول إنه لم يكن أقل طمعا في السلطة من معاوية وقد سفك من أجلها ما سفك من دماء واسماء موثقة ومعروفة. 

أمامنا أذا ثلاث شخصيات: على الأسطوري في الخيال الشعبي الذي يقاتل التنين ويصرع الجبابرة ويقتل مئة بضربة سيف. وعلي المثالي الذي يتجاوز الرسول في مثاليته وهي صورة زادت في ترسيخها الكتابات الحديثة. وهناك علي الحقيقي الطامع في السلطة بلا قدرات والسابق إلى مبدأ وراثية الحكم في الإسلام.

 

وعلي الوعي الاسلامي المعاصر التفريق بين الصور الثلاث حتى لا يقع في فخ التبعية لمشاريع الموت الطائفي.

 

ليس الهدف من كلامي الانتقال من التأليه إلى الشيطنة، وانما المساعدة على تكوين رؤية نقدية لشخصية محورية في الإسلام في الماضي والحاضر... شخصية مركبة من الخير والشر ظلمتها السرديات بالصورة المثالية المستحيلة في عالم البشر.

رؤية نقدية ضرورية خاصة وان خرافة الغدير والوصاية وحكم آل البيت يتم استخدامها كايديولوجيا عنصرية وتحريكية وتحريضية في صراعات السياسية اليوم.

 

كلما ضعفت الخرافة حصنها اتباعها بالمديد من الخرافات والأكاذيب.

لكنّ الخرافات والأكاذيب الساعية لتحصين الخرافة الأصلية تأتي أكثر هشاشة وأشد حماقة منها.

في رواية 1984 لجورج أورويل تسعى الديكتاتورية الشمولية الى تحصين خرافة "الأخ الأكبر" عبر تزوير التاريخ وإعادة كتابة الماضي والدعاية المستمرة ليل نهار حول قوة وقدرات وانجازات الأخ الأكبر.

لكن أهم آلية هي جعل أي نقد للأخ الأكبر مستحيلا عبر مصادرة اللغة نفسها والتفكير نفسه.

يتم إلغاء كل الكلمات والاصطلاحات المتعلقة بالنقد من اللغة. أما التفكير نفسه فيصبح مستحيلا لأن غياب المعلومة ومحدودية اللغة وتعميم الحزب لآلية "التفكير المزدوج" أي الإيمان بالفكرة ونقيضها تجعل التفكير نفسه عملية غير ممكنه.

 

آليات شبيهة بهذه استخدمت قديما وحديثا لحماية خرافة الولاية وآل البيت.

فتمت إعادة كتابة الناريخ( في العصر العباسي عموما) ليصب في مصلحة سردية مظلومية وخرافة آل البيت. كما عمم التشيع الستي التشيع الشيعي آلية التفكير المزدوج. فعلي بن أبي طالب قتل الآلاف طمعا في السلطة، لكنه في نفس الوقت زاهد فيها! والحسن والحسين أرادا وراثة السلطة عن ابيهما وتوريثها لأبنائهما لأنها حصر في آل البيت، لكنهم في نفس الوقت خرجوا على بني أمية اعتراضا على التوريث!!

 

لكن أخطر وأبشع آلية كانت توظيف ترسانة البذاءة الهاشمية الطالبية عبر اتهام كل من ينتقد اطماع علي وبنيه في السلطة بأنه منافق أو ابن زنا!

وهكذا تفننوا في تأليف أحاديث مثل؛ 

"يا علي لا يبغضكم إلا ثلاثة، ولد زنا ومنافق ومن حملت به أمه وهي حائض "!

وتقدم القصاصون والحكاؤون لتأليف حكايات حول أن العربي عندما كان يشك في نسب أي ولد من أولاده يسأله عن حبه لعلي وآل البيت. فاذا قال ولده انه يحب آل البيت فهو ابنه فعلا. أما إذا قال أنه لا يحبهم فان العربي يطرده من البيت ويتأكد أنه ابن زنا.

واكتملت الترسانة الدعائية للبذاءة بالشعراء والقصائد التي توسعت في كيل اتهامات الزنا لكل من يرفض أو يناقش او يتشكك في ادعاءات البيت الطالبي في الحكم. 

 

في رواية جورج أورويل لا مجال لعدم حب "الأخ الأكبر" أنت مجبر على حبه! ولو كرهته فان الكاميرات ستلتقط تعبيرات وجهك وتفضحك وسيرسلك البوليس السري الى "وزارة الحب" لتعذيبك واصلاحك حتى تخرج مواطنا صالحا ومحبا للأخ الأكبر.

 

في مؤسسة البذاءة المدافعة عن خرافة الولاية وآل البيت، انت مجبر على محبة آل البيت واتباعهم والإيمان بحقهم الحصري في حكمك، وإلا فانت منافق أو ابن زنا.

وهل هناك أسوأ عند العربي أو المسلم من اتهامه بأن أمه زانيه؟!

بنت خرافة الولاية ترسانة البذاءة على أسوأ كوابيس العربي والمسلم، كابوس الشرف .

أنت لا يحق لك حتى التشكك في قدسية آل البيت وفي مغامراتهم ومذابحهم وترهاتهم وأكاذيبهم. انك اذا تشككت تنسف حياتك واستقرارك النفسي ودائرتك الاجتماعية والأسرية. تخيل أن تعيش وسط رعب اكتشاف زنا أمك او زنا زوجتك لمجرد انك بدأت تفكر بعقلانية وبساطه في أكاذيب سلالة عنصرية تراك تابعا لها عبدا عند أقدامها الى يوم القيامة.

 

حتى أبشع الحركات الفا..شية والنا..زية لم تفكر في استخدام أسلوب بمثل هذا التدني والإفلاس الأخلاقي.

الخرافة الأضعف والأتفه هي الخرافة الأخطر. لأن ضعفها وهشاشتها وتفاهتها هي مصدر توحشها وبذاءتها ولاأخلاقيتها.

 

*سلسلة حلقات نشرها الكاتب على حسابه في منصة x