اليمن… هل تصبح مركزية الجنوب بديلا عن التقسيم؟

على الرغم من أن معظم تجارب الوحدة في العالم تمت بالقوة إلا أن الوحدة اليمنية تمت بالطرق السلمية عام 1990، بعد عقود من التفاوض عليها بين شطري اليمن سابقاً، وعلى الرغم من الحروب التي كانت بين الدولتين الشطريتين السابقتين في اليمن، إلا أن أياً من النظامين الشطريين – حينها – لم يتخلَّ عن هدف تحقيق الوحدة التي كانت كذلك هدفاً مشتركاً لثورتي الشمال ضد نظام الإمامة والجنوب ضد الاحتلال البريطاني، وظلت هدفاً رسمياً وشعبياً، تحقق عام 1990، وتم الاستفتاء عليها شعبياً، حيث التقت الإرادة الشعبية مع الإرادة السياسية في الشطرين السابقين.

ومع ذلك فقد حصلت تجاوزات وتراكمات أدت إلى تفجر الأوضاع في صيف 1994، حين أعلن نائب الرئيس اليمني الأسبق علي سالم البيض عن «فك الارتباط»، والعودة إلى حدود ما قبل عام 1990. وقد كان إعلان البيض عن هدفه سبباً في تقدم القوات التي كان يقودها الرئيس السابق علي عبدالله صالح، نظراً لأن المزاج الشعبي كان رافضاً لتقسيم اليمن، وهو ما كان البيض – حينها – يدركه تماماً، عندما أعلن أن «فك الارتباط» يهدف إلى إعادة تحقيق الوحدة، وذلك كي لا يستثير الشعور الجماهيري شمالاً وجنوباً ضده، وهو التكتيك الذي لم يجد، حيث تراجع مشروع التقسيم لصالح مشروع الوحدة اليمنية التي دعمتها القرارات الدولية آنذاك.

هذه حقائق تاريخية لا يمكن تجاوزها، كما لا يمكن تجاوز حقيقة أن ممارسات غير مشروعة مورست باسم الوحدة اليمنية، وأن هذه الممارسات ولدت غضباً لدى بعض النخب في جنوب البلاد، ضد الوحدة، وقد زاد التمرد الحوثي في شمال البلاد الذي بدأ في 2004، زاد من هشاشة الدولة، الأمر الذي ساعد مع عوامل أخرى على تشكل «الحراك الجنوبي» الذي بدأ مطلبياً، عام 2007، ثم تحول سياسياً، ثم اختلفت الرؤى داخله، بين من يطالب باستعادة دولة الجنوب السابقة، ومن يرى إمكانية الحوار على شكل الدولة، وهي الفصائل التي شاركت في الحوار الوطني عام 2013.

واليوم ومع سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي على محافظتي حضرموت والمهرة شرق اليمن تعود الأسئلة الجوهرية حول مواضيع الوحدة والانفصال في اليمن، على الرغم من أن الصراع في اليمن يبدو صراعاً بين الوحدة والانفصال، إلا أنه صراع على السلطة والثروة، وما صراع «الوحدويين والانفصاليين» سوى تجلٍ للصراع على السلطة والثروة في البلاد التي أنهكتها الحروب والصراعات، وتتخذ نخبها السياسية مواقفها، بناء على مصالحها الشخصية أو الفئوية، بغض النظر عن المصالح العليا للبلاد.

كان الحوثي – على سبيل المثال – قبل أن يسيطر على العاصمة صنعاء انفصالياً، بشكل أو بآخر، وكان يدعم «حق تقرير المصير للجنوبيين»، كي ينال هو الحق ذاته، ولو بشكل تكتيكي مؤقت، حسب طرحه في مؤتمر الحوار الوطني، ذلك أن هذا الطرح كان يوفر للحوثي الملاذ الآمن، في محافظة صعدة، بعيداً عن سيطرة المركز في صنعاء، لكن الحوثي عندما سيطر على العاصمة، ثم على عدن بعدها تحول إلى وحدوي يدافع عن وحدة اليمن ويرفع شعارها، وتنكر لما كان يطرحه من وجوب إعطاء الجنوبيين «حق تقرير المصير».

واليوم لو انهزم الحوثي فإنه سيعود للمطالبة بإقليم صعدة وحدها، وسيكون انفصالياً، يرفع شعار المظلومية التي رفعها من قبل، وسيطالب في أحسن أحواله بإقليم خاص به، وسيظل يبحث عن رقعة أرض صغيرة يقيم عليها سلطته، حتى وإن كانت تلك البقعة في مديرية واحدة في محافظة صعدة.

وفي المقابل، لو فرضنا أن الانتقالي الجنوبي المطالب باستعادة دولة الجنوب أوتي من القوة ما يكفي لبسط سيطرته على كامل التراب اليمني – شمالاً وجنوباً – فإنه سيكون وحدوياً حتى النخاع، دون أدنى شك، وربما نجد حينها أطرافاً شمالية أزيحت من السلطة تندد بـ»حدة النهب والسلب»، وتطالب بتقسيم اليمن، في تبادل للأدوار مع الانتقالي الجنوبي.

وعودة إلى الأحداث الأخيرة في محافظة حضرموت شرق اليمن، يمكن القول إنها سلطت الضوء على أزمة مجلس القيادة الرئاسي اليمني، وهي أزمة تتمحور حول تركيبة المجلس الذي ضم أطرافاً ومكونات مختلفة، وليس اختلافها في الأدوات والتكتيكات السياسية، ولكنها مختلفة على مستوى المشاريع المحورية التي يمكن اختصارها إلى مشروعين متضادين يعصفان بقدرة المجلس على العمل. هذان المشروعان هما مشروع ما قبل عام 1990 الذي يرى في اليمن دولتين مستقلتين، ويريد العودة إلى ما قبل عام تحقيق الوحدة اليمنية، والمشروع الآخر هو مشروع ما بعد عام 1990، وهو المشروع الذي يرى اليمن دولة واحدة، وهو يبدي مرونة إزاء شكل هذه الدولة، وعلاقة أقاليمها المختلفة ببعضها، وعلاقة الأقاليم بعاصمة الدولة، ويتبنى الاتحادية، ومع تحديد آليات توزيع السلطة والثروة في البلاد، وهو المشروع المتضمن في وثيقة مخرجات الحوار الوطني الذي اختتم أعماله مع إطلالة عام 2014. وهذه الوثيقة بُنيت على أساس المبادرة الخليجية التي أصبحت مع تلك المخرجات ضمن مرجعيات الحل السياسي في اليمن، وتم تضمينها في قرارات دولية، أصبحت بدورها ضمن مرجعيات هذا الحل.

ومع أن ما جرى في حضرموت من سيطرة «انتقالية» يمكن أن يشكل تهديداً جدياً لوحدة مجلس القيادة، إلا أن ما جرى يمكن أن يشكل فرصة للحوار من أجل مكاشفة جدية، داخل المجلس والحكومة، بما يفضي إلى انسجام عمل المجلس، بالاتفاق على أن أية خطوة تتخذها المكونات التي تشكل المجلس ينبغي أن تتلو مرحلة استعادة الدولة التي يعد إسقاط الحوثي لها مبعث كل هذا التشرذم على الساحة اليمنية.

وهنا يمكن أن يتم العمل على سياسات تفضي إلى نقل مركز الثقل السياسي والاقتصادي في اليمن من مناطق سيطرة الحوثي إلى المناطق الجنوبية والشرقية، بما يشعر من يطالب بتقسيم اليمن بأنه يمكن أن يسهم في إعادة بناء الدولة اليمنية، من موقع قوة، بعد أن أصبح الانتقالي قوة حقيقية على الأرض، إذ أن الأطراف التي طالبت بالانفصال ورفضت فكرة إصلاح الوحدة إنما فعلت ذلك من منطلق أنها لم تكن في وضع من القوة يمكنها من فرض توازن وحدوي. أما اليوم فإن الوضع قد اختلف، فالانتقالي في موضع قوة، ويمكنه أن يتفاوض على تفاصيل وشكل الدولة من موقع هذه القوة التي تضمن له تعاطياً ندياً مع بقية المكونات اليمنية.

ربما رأى البعض في هذا الطرح ضرباً من المثالية، ولكنه على العكس – أقرب الطروح الواقعية الممكنة، خاصة وأن «مظلومية الجنوب» قد استوفت حقها، بسيطرة الجنوبيين – أو مكون منهم – على محافظات جنوب وشرق البلاد، وهو ما يعني أن هذه المظلومية قد انتصرت، رغم وجود أطراف أخرى جنوبية ترى استمرارية هذه المظلومية، ولكن ليس على أيدي الشماليين، هذه المرة. هذا الوضع الجديد سيعزز من فرص التخلص من الشعور بالمظلومية، وسيساعد على تبني خطاب أكثر واقعية، وأقل انفعالية، بما يحافظ على المكتسبات التي تحققت في الجنوب، ويهيئ الفرصة لشراكة وطنية، شراكة أقوياء، لا يستحوذ فيها طرف على حقوق طرف آخر، وينتهي بها خطاب المظلوميات التي أنهكت البلاد، خلال السنوات الماضية، مع نقل الثقل السياسي والاقتصادي في اليمن نحو المحافظات الجنوبية والشرقية، في إطار السلطة المعترف بها دوليا، وبما يجنب البلاد الدخول في محاذير القرارات الدولية التي تبدي تشدداً إزاء محاولات عرقلة العملية السياسية في اليمن.

بقيت الإشارة إلى أنه مثلما أن الوحدة اليمنية لم تتحقق بالقوة فإن تقسيم اليمن لا ينبغي أن يفرض بالسلاح، ولتكن الأولوية لاستعادة الدولة، ثم مناقشة بقية التفاصيل في مراحل مقبلة.