عقوبات من ورق.. حين تتحول الهزيمة إلى دعاية في إعلام الحوثيين (تقرير خاص)

عقوبات من ورق.. حين تتحول الهزيمة إلى دعاية في إعلام الحوثيين (تقرير خاص)

من قلب العزلة السياسية والعسكرية التي تُحاصر الحوثيين في اليمن، خرجت الجماعة بتصريح يكاد أن يكون أشبه بمزحة ثقيلة، حيث ادّعت بفرض "عقوبات يمنية" على شركات أمريكية عملاقة عاملة في مجال تصنيع الأسلحة؛ بل زعمت أن هذه الخطوة أثمرت عن خسائر بمليارات الدولارات في البورصة الأمريكية.

ليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها تنظيم مسلح أو جماعة مصنفة ضمن قائمة الإرهاب إلى استخدام لغة الاقتصاد والدبلوماسية دون امتلاك أدواتها؛ فالإعلان الحوثي عن فرض عقوبات تستهدف شركات أمريكية، يفتح الباب أمام قراءة أكثر عمقًا للسلوك السياسي للهذه الجماعة العقائدية، التي تندفع لصناعة رمزية فارغة تغطي بها خواءها الميداني، وإحساسها بالفشل أمام ضربات واشنطن القاسية.

 

عقوبات من ورق 

 

الادعاء جاء في سياق تصاعد الغارات الأمريكية الموجعة ضد مواقع الحوثيين وتركيزها مؤخرًا على استهداف الموارد الممولة لأنشطة الجماعة بما فيها قصف ميناء رأس عيسى، وفرض القيود المشددة على دخول الوقود إلى المناطق الحوثي، وغيرها من الاجراءات التي تسهم في تجفيف منابع الحوثيين المالية.

هذه الأسباب دفعت جماعة الحوثي للادعاء بفرض عقوبات على عدد من الشركات الأمريكية، وفي الحقيقة لم يكن هذا الإعلان سوى محاولة يائسة لصناعة بطولة بديلة، في وقت تهاوت فيه قدرة الحوثيين على الرد أمام سياسة ترامب الجديدة، التي تتعامل بحزم مع الحوثيين باعتبارهم الذراع الأخير لطهران في المنطقة.

لكن هذه الحيلة، وإن بدت جديدة في تفاصيلها، ليست إلا امتدادًا لمنهجية راسخة لدى الجماعة، التي لطالما سوّقت الخرافة كبديل عن الإنجاز، والغيب كبديل عن المنطق، والدعاية كبديل عن السياسة الواقعية؛ ففي العالم تعد الدعاية سلاح سياسي، ولكن حين تصبح السلاح الوحيد فإن النتيجة لا تكون سوى وهم يرتد إلى الداخل، ويكشف هشاشة الذات، لا قوتها.

 

دعاية حوثية

 

نشرت وسائل إعلام حوثية، أن 12 شركة أمريكية من أصل 15 شملتها "العقوبات اليمنية" المزعومة، فقدت ما مجموعه 10.6 مليار دولار من قيمتها السوقية، في اليوم التالي لإعلان "القرار"، تضمنت القائمة شركات بارزة مثل بوينج، لوكهيد مارتن، جنرال داينامكس، إل 3 هاريس، ميركوري سيستمز وغيرها.

وهنا، تبدأ اللعبة الخطابية وتداول تقارير البورصة اليومية التي تُظهر تقلبات طبيعية في الأسهم كما لو أنها تحوّلت بلمسة دعائية إلى "دليل دامغ" على فاعلية الردع الحوثي، والغائب الوحيد عن هذا المشهد هو المنطق.

يقول خبراء اقتصاديون إن النظرة المجردة للأرقام لا تكفي، فالتغيرات اليومية في أسواق الأسهم تتأثر بعشرات العوامل مثل البيانات الاقتصادية، ومعدلات الفائدة، وكذلك الأحداث الجيوسياسية، والتغيرات في الطلب العالمي، وتقارير أرباح ربع سنوية، مؤكدين أن "العقوبات الحوثية"، ليست ضمن هذه العوامل، بل لا يعرف المستثمر الأمريكي بوجودها أصلًا.

 

زيف الادعاءات

 

تعتبر شركة مثل لوكهيد مارتن، إحدى أكبر شركات التصنيع العسكري في العالم، وتتراوح القيمة السوقية لها بين 100 و130 مليار دولار، وتربح أو تخسر مليارات بشكل يومي نتيجة عقودها مع البنتاغون، أو تأخّر برنامج مقاتلة، أو حتى تقارير عن تغيّر في أولويات الدفاع الأمريكية.. الأمر الذي جعل الكثير يتساءلون هل يمكن لمن لا يملك حتى نظامًا مصرفيًا داخليًا أن يهز شركة بهذا الحجم؟

ورغم ذلك، زعمت الجماعة أن الشركة خسرت 1.4 مليار دولار، بسبب "قرارات الحوثي"، وهذا الربط الغير مبرر يوحي بمدى الانفصال التام بين الدعاية والواقع لدى الجماعة الحوثية، فمجرد الاعتقاد بأن "قرار عقوبة" من جماعة غير معترف بها دوليًا، وتفتقر إلى أي صفة سيادية، يمكنه أن يؤدي إلى اهتزاز اقتصادي داخل شركة مثل "لوكهيد مارتن" يكشف مستوى الحوثيين في التبسيط الطفولي للأحداث الدولية.

وأوضح خبراء اقتصاديون بأن إعلان الحوثيين عن خسائر الشركات الأمريكية مليارات الدولارات جاء استنادًا إلى تغيرات يومية في أسعار أسهم تلك الشركات في البورصة الأمريكية، والتي صادفت مع إعلانهم ما وصفوه بـ "فرض عقوبات يمنية" على شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية، ردًا على دعم واشنطن لإسرائيل.

ورجح البعض سبب هذا التراجع في السوق، إلى السياسات الاقتصادية الأمريكية الداخلية، مثل الرسوم الجمركية أو السياسات الضريبية التي لوّح بها الرئيس ترامب، ويحاول فرضها بكل جدية، ومع ذلك ادّعى الحوثيون أنهم السبب وراءها، رغم أنهم لا يمتلكون أي أدوات اقتصادية دولية حقيقية مثل نظام بنكي، أو قدرة على فرض حظر، أو تأثير على التجارة العالمية.

 

تصنّع الثبات

 

لم تكتفِ الجماعة بادعاء التأثير، بل سوّقت ذلك على أنه ضربة موجعة لأمريكا بأكملها، دون أن تدرك أن سوق المال الأمريكي يتحرك كل دقيقة بمليارات الدولارات، صعودًا وهبوطًا، في ظاهرة لا علاقة لها إطلاقًا بقرارات الحوثيين، فضلًا أن هذه الشركات لم تُصدر بيانًا يعترف بتأثير العقوبات الحوثية.

لكن الواقع الذي تحاول الجماعة إخفاءه خلف هذه التصريحات، هو تعرضها لأقسى موجة ضربات جوية أمريكية منذ سنوات؛ فالمقاتلات الأمريكية دمّرت خلال الأسابيع الأخيرة بنى تحتية استراتيجية شملت مستودعات صواريخ بحرية بعيدة المدى، ومراكز قيادة وتحكم ميدانية، ومنصات إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، ورادارات ساحلية ومنظومات اتصالات عسكرية.

المحصّلة كانت شلل واضح في قدرة الجماعة على تنفيذ هجمات على السفن أو تحريك منصات بحرية، وهو ما أكدته تقارير استخباراتية أمريكية أشارت إلى "تراجع ملحوظ في وتيرة وفعالية التهديدات البحرية الحوثية"، وفي هذا السياق، جاءت "العقوبات الحوثية" كمحاولة للتغطية على هذا التراجع المهين.

 

انتصارات وهمية

 

من الناحية النفسية، تمثل هذه الخطوة شكلاً من أشكال التعويض الذاتي، وهي حالة معروفة في علم النفس السياسي، تلجأ فيها الحركات المسلحة إلى تضخيم قدرتها أو خلق أحداث رمزية حين تعجز عن الرد على الخسائر الميدانية.

ولأن جماعة الحوثيين، تعتبر تنظيمًا قائمًا على المرجعية الدينية والاصطفاء الإلهي، لا تملك رفاهية الاعتراف بالهزيمة، لذا تلجأ إلى خلق قصص انتصار بديلة، تكون وظيفتها الرئيسية رفع معنويات الأتباع، لا التأثير على الخصم، حيث تأخذ الدعاية طابعًا "شعبويًا"، وفق توصيف البعض إذ تتحدث بلغة تُرضي القاعدة الشعبية غير الواعية.

ويرى ناشطون يمنيون أن ما يجعل خطاب الحوثيين أكثر عبثية هو محاولة محاكاة سلوك الدول الكبرى، خاصة أمريكا التي تفرض عقوبات اقتصادية فعلية تؤثر على بنوك وشركات دولية؛ مشيرين إلى أن واشنطن عندما تفرض عقوبات على شركة محددة، يُحظر التعامل معها دولياً، ويُجمَّد أرصدتها في البنوك العالمية، وتُمنع من استخدام النظام المالي الأميركي (SWIFT)، وتُدرج في لوائح سوداء لدى الحلفاء.

أما "العقوبات الحوثية"، فهي مجرّد قائمة أسماء، تُنشر عبر وسائل إعلام تابعة للجماعة، وتُزَيَّن ببعض التعليقات النارية، لكنها لا تملك أثرًا قانونيًا أو ماليًا أو جيوسياسيًا، والمفارقة أن البيانات الرسمية للشركات الأمريكية لم تذكر حتى وجود تهديد من اليمن، ناهيك عن اعتباره مؤثرًا على أدائها المالي.

إلى ذلك، يتساءل اليمنيون عن الأسباب التي جعلت جماعة الحوثي الإرهابية تُبرر ما أسمته بالعقوبات على الشركات الأمريكية الكبرى، كردٍّ على الدعم الأمريكي لـ "الإبادة في غزة"، متجاهلة بشكل لافت الضربات الجوية الأمريكية المباشرة على العاصمة صنعاء ومدن مثل صعدة والحديدة.

وبحسب سياسيين فإن الجماعة أدركت أن تقديم الخطوة كجزء من معركة إقليمية أوسع ضد الهيمنة الأمريكية سيكون أكثر إقناعًا في الفضاء الإعلامي العربي، مقارنة بتقديمها كرد فعل "محلي" على غارات أمريكية تمسّ الحوثيين كسلطة أمر واقع في اليمن، لا كـ"قضية أمة".

ويرى الصحفي عدنان الجبرني متخصص في الشؤون العسكرية أن خطاب مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي للجماعة، (غير معترف به دوليًا) كان في جوهره موجهًا للداخل أكثر مما كان موجهًا للخارج، على الرغم من الطابع "الاستعراضي" الذي اتسمت به كلمته.

ويؤكد أن التحركات التي أعقبت الخطاب كشفت نية الحوثيين بوضوح، اجتماعات أمنية مكثفة جمعت بين أذرع القمع الرئيسية في الجماعة (علي حسين الحوثي، الكرار الخيواني)، حملات اعتقال واسعة، وتصعيد دعائي منظم يديره جهاز الأمن والمخابرات، مشيرًا إلى أن "كل هذا لا يُفسّر إلا باعتباره محاولة لإعادة إحكام القبضة على مجتمع بات يتشفّى علنًا بسقوط الطائرات والصواريخ فوق رؤوس سلطته، دون أن يكلف نفسه عناء التضامن".

 

تسويق كاذب

 

في ظل غارات أمريكية يُفترض أنها تمس السيادة الوطنية، لم يُظهر الشارع اليمني تعاطفًا يُذكر مع الحوثيين، والسبب أن الجماعة تحصد اليوم ثمار سياساتها القمعية القائمة على التجويع والعنصرية وسياط الترهيب، حتى عندما يكون العدو هو "أمريكا"، بكل ما تحمله الكلمة من رمزية في الوجدان اليمني والعربي، فإن الجماعة باتت تواجه عزوفًا شعبيًا واضحًا، بل لامبالاة ساخرة تعكس عمق التآكل الذي أصاب خطابها التعبوي.

وفي هذا السياق يقول مراقبون إن جماعة الحوثي تدرك أن الهجوم الأمريكي يعاني من غياب الحلفاء والرؤية الواضحة، لذلك هم يركزون على تعزيز صورة "الاستعصاء"، بل وتحويل القصف إلى دعاية عكسية، فهم يزعمون أن الدفاعات الجوية للجماعة تمكنت من إسقاط مقاتلات شبح أمريكية، ويُضخمون من قدراتهم العسكرية في محاولة لتكريس صورة "اليمن الذي لا يُقهر"، رغم أن الخروق التقنية في صفوف الجماعة بدأت تظهر للعيان.

ولهذا فإن مسألة فرض العقوبات على شركات أمريكية قد لا تبدو غريبة لمن يتابع الأداء الإعلامي للجماعة؛ فهي نفس الجهة التي أصدرت قبل سنوات حكمًا بالإعدام بحق دونالد ترامب، وهي ذاتها التي لا تتورع عن الحديث عن "توازن ردع" مع أمريكا، مستخدمة خطابًا عسكريًا مليئًا بالمبالغة والعبارات الدعائية الفارغة.

في النهاية، لا يبدو أن الهدف الحقيقي من هذه القرارات هو الضغط على أمريكا، التي لا تملك أصولًا لدى الحوثيين أصلًا، بل تعبئة داخلية وتسويق كذبة كبرى مفادها أن الجماعة تمثل رأس حربة في معركة الأمة، بينما في الواقع، لا يتجاوز الأمر كونه خدعة سياسية لتحويل القمع إلى بطولة، والانكشاف إلى صمود.