ازدواجية إدارة الدولة.. لماذا تتحرك الحكومة الشرعية في تعز وتتجمد في حضرموت؟ (تحليل خاص)

ازدواجية إدارة الدولة.. لماذا تتحرك الحكومة الشرعية في تعز وتتجمد في حضرموت؟ (تحليل خاص)

في ظل المشهد اليمني المضطرب، لا شيء يكشف طبيعة السلطة مثل طريقة تعاملها مع الأزمات الداخلية، وهو ما وصلت إليه قيادة الحكومة الشرعية خلال هذه المرحلة وكأنها تمسك بمعيارين مختلفين لإدارة الدولة؛ فمن جهة تُبالغ في إظهار القوة السياسية والإدارية داخل مدينة محاصرة ومنهَكة مثل تعز، ومن جهة أخرى تبدو مُغيبة ومترددة في محافظة حضرموت التي تمثل رئة اقتصادية للبلاد، والأكثر حساسية على مستوى السيادة الوطنية.

رغم الفارق الزمني البسيط، لم تكن الأحداث في تعز وحضرموت مجرد وقائع منفصلة، وإنما هي انعكاس مباشر لخلل عميق في بنية القرار، فعندما تبرز ملفات تعز مهما كان حجمها، تتحرك الشرعية بجميع أدواتها لتشكيل لجان، وإرسال مذكرات متعددة، وتفعيل الحضور الإعلامي والتصريحات السياسية.

غير أن الصورة في حضرموت جاءت على النقيض تمامًا، فهناك صمتت رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع ومجلس النواب ومعظم المكومات السياسية حين سيطر الانتقالي على حقول النفط ومطار سيئون والمواقع العسكرية التابعة للمنطقة العسكرية الأولى، واستبدلت القرارات والتوجيهات الواضحة بمكالمات واتصالات مع الحديث عن تدخل سعودي لاحتواء الموقف.

نحاول هنا قراءة المشهد من مختلف المستويات القيادية، لرصد مظاهر الازدواجية التي باتت تشكل السمة الطاغية على أداء الشرعية ومؤسساتها، ولتفسير كيف أصبح الداخل اليمني يُدار بمنطق "الكُلفة السياسية" وليس بمعيار الدولة أو مبدأ السيادة، حيث أنها ترى في تعز منطقة ممكنة لتطبيق قرارها السياسي، بينما باتت تنظر لحضرموت بتحفظ خشية أن تصطدم مع أطراف إقليمية (الإمارات) أو محلية (المجلس الانتقالي الجنوبي).

وعموما ما حدث ويحدث في تعز هو حالة إيجابية واستجابة طبيعية للإصلاحات الاقتصادية والإدارية للحكومة الشرعية، والتي خلقت رغبة في إظهار هيبة الدولة أو على الأقل ما تبقى منها، في مساحة جغرافية ما تزال تحت نفوذ الشرعية، وإن كانت محاصرة منذ عقد.

 

قيود تنفيذية

 

في قمة هرم الشرعية يحافظ رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، على خطاب سياسي متوازن، وحرص على إظهار دعم مؤسسات الدولة في تعز، مؤكدًا في مناسبات كثيرة رفضه لأي تجاوزات تمس السلطة المحلية، لكن هذا الحضور السياسي لم يتحول إلى قرار تنفيذي في غير تعز، فإجراءات العليمي تجاه حضرموت بدت أكثر حذرًا منها حسمًا.

صحيح أنه أصدر أخيراً وبعد مغادرته عدن إلى الرياض، توجيهات واضحة بشأن ضرورة حماية السيادة ووجه بتشكيل لجنة للتحقيق في أحداث حضرموت، لكنه لم يتحرك لمنع التغيرات الميدانية الخطيرة التي بدأت تفرض واقعًا جديدًا في سيئون والوادي.

وهنا تبدو مشكلة العليمي في أنه رئيس دون صلاحيات ميدانية، وهذا لأنه يقود مجلسًا متشعبًا تتعدد داخله مصادر القرار، ما جعله يقف محاصرًا بواقع سياسي يحدّ من قدرته على تحويل مواقفه إلى إجراءات حقيقية على الأرض.

 

مواقف مرهونة

 

يدرك المتابع للوضع السياسي في اليمن أن مجلس النواب برئاسة سلطان البركاني، أصبح مفروغا من سلطته التشريعية بدون اجتماعات وبدون جدول مهام أسبوعية، ومع ذلك يظهر البركاني وبعض النواب كأصوات مناطقية أكثر من كونهم يمثلون مؤسسة وطنية يفترض أن تهتم بكل ما يدور في المناطق المحررة.

ففي تعز، لم يفوّت سلطان البركاني وبعض البرلمانيين فرصة لإصدار بيانات تحذيرية أو توجيه مذكرات أو مطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات معينة، وشهدت ملفات مثل أحداث التربة والمقاطرة، وقبل ذلك حادثة اغتيال افتِهان المشهري، استنفارًا لافتًا، بدا وكأن البرلمان جزء من آلة الضغط اليومي في تعز.

لكن حين يتعلق الأمر بأحداث حضرموت اختفى صوت البرلمان، بل إن البركاني وبعض النُواب تصرفوا كما علق أحد المحللين، بمنطق الهوية الجغرافية، وكأن الوطن يُقاس بالمسافة من منازلهم لا بحدود السيادة.

وإذا عدنا لحادثة اغتيال افتِهان المشهري، فسنجد أن أجهزة الدولة في تعز أثبتت أنها قادرة على الاستجابة السريعة عندما يستدعي الأمر، في حين انعدمت هذه الكيفية في التعامل مع دخول قوات الانتقالي إلى مناطق حساسة في حضرموت مثل مطار سيئون وشركة "بترومسيلة" وكأن الأمر كان مهيئاً لذلك فلم تصدر بيانات حكومية تحذيرية ولم يتم اتخاذ اجراءات دفاعية، وهو الأمر الذي يؤثر كثيراً على مدى ثقة المواطن بقدرات الشرعية.

وبالنسبة للسلطة المحلية، فقد كان حضور محافظ تعز نبيل شمسان، أقل بكثير من المطلوب لمدينة محاصرة ومثخنة بالأزمات، وكأنه يؤدي دور موظف إداري انتهازي لا دور قيادي في المحافظة، الأمر الذي يطرح أسئلة عن طبيعة السلطات المحلية في المناطق المحررة بالنظر إلى محافظة تُستخدم اليوم كمساحة لاستعراض قرارات الشرعية بينما هي محرومة من أبسط مستحقاتها.

 

أزمة سيادية

 

على المستوى العسكري، أصبح المشهد أكثر وضوح وفجاجة، فوزير الدفاع محسن الداعري كان حاضرًا بقوة في ملفات تعز، وأصدر مذكرات سريعة فيما يخص ضريبة القات موجها بتشكيل لجان للتحقيق.

لكن عندما بدأت الأحداث تتسارع في حضرموت، وفي اللحظة التي اقتربت فيها قوات الانتقالي من مواقع حساسة في سيئون، كان الوزير في القاهرة لحضور معرض دفاعي، ولم تتمكن قيادة المنطقة العسكرية الأولى من التواصل معه طوال أيام حرجة ثم عاد إلى عدن بعدما سيطرت قوات الانتقالي على حضرموت والمهرة.

وبالنسبة لرأس السلطة التنفيذية، فلم يكن لرئيس الوزراء سالم بن بريك، خلال أحداث حضرموت أي موقف أو ظهور إعلامي لمواجهة الأحداث المتسارعة في حضرموت رغم خطورتها.

إلا أنه وفيما يخص تعز، أصدر مذكرة تتعلق بملف ضريبة القات وبلغة حادة، في حين أن ضريبة القات شكلت رافداً حقيقيا لدعم جبهات تعز في صمودها بوجه الحوثيين، في ظل انقطاع الدعم العسكري من الوزارة لسنوات، فعمليًا قيادة الشرعية وجهت بتوقيف الضريبة مصدر الدعم للجبهات، لكنها لم تقدم بديل.

ويكشف ذلك عن مسار سياسي مرسوم للحكومة لا يمكن تجاوزه، فهو يبقى في سياق المتابعات الإدارية ولا يرقى إلى مستوى التعامل مع أزمة سيادية تهدد أهم محافظة نفطية في البلاد، فالحكومة لم تصدر أي مذكرة بشأن سيطرة قوات الانتقالي على سيئون، ولم تعلن عن تشكيل لجنة تحقيق بخصوص المنشآت النفطية هناك، رغم أن الحدث يمس السيادة.

 

شعارات سياسية

 

لا يقل حدة المشهد الحزبي عن أداء المؤسسات الرسمية، فالأحزاب اليمنية بمختلف ألوانها أظهرت نشاطًا مفرطًا في تعز، من بيانات وحملات إعلامية مثلت مواقف سياسية بنبرة عالية، لكن عندما تحركت الأحداث شرقًا نحو حضرموت والمهرة حيث تتغير موازين القوة فعلًا، أظهرت مواقف متباينة ورمادية.

حتى المكتب السياسي للمقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح عضو مجلس القيادة الرئاسي، الذي أصدر موقفا واضح بشأن حادثة اغتيال افتِهان المشهري، لم يبدِ موقفًا يوازي حجم التحولات في حضرموت.

والأكثر من ذلك، أن المواقف الإعلامية المحسوبة على الساحل للغربي بما في ذلك قناة "الجمهورية"، ظهرت وكأنها تمر عبر حسابات مصالح إقليمية مرتبطة بالعلاقة مع الانتقالي، رغم استدعاءها لشعارات توحيد الصف الجمهوري والحفاظ على مكتسبات الوحدة.

أما النخب الاجتماعية والقبلية فقد تفاوتت أصواتها، لكن حلف قبائل حضرموت كان الأكثر وضوحًا وصراحة في رفضه لجعل حضرموت ساحة لإعادة رسم الخرائط السياسية بإرادة خارجية، وهو نفس الأمر الذي عبر عنه عضو مجلس الشورى صلاح باتيس، مؤكدًا أن "لحم حضرموت ليس للبيع".

 

تحولات متسارعة

 

ما يجري في حضرموت اليوم، هو أخطر من مجرد توتر محلي، فهناك تغيير فعلي في السيطرة ومحاولة إعادة تشكيل النفوذ السياسي والعسكري، وهي تحركات تتجاوز حدود السلطة المحلية، فيما تبدو الشرعية وكأنها تراقب الوضع من بعيد، رغم أن ذلك يمسّ أساس الدولة اليمنية ووحدتها السياسية والاقتصادية.

إلى جانب ذلك، تشير وقائع عديدة إلى وجود تفاهمات إقليمية ودولية مع حدوث خلافات حول بعض الملفات بين السعودية والإمارات، ويُدار ذلك خارج إطار الشرعية وسط غياب رؤية واضحة لدى القيادة العُليا للتعامل مع التحولات المتسارعة في البلاد، فباستثناء مواقف محدودة من الرئيس العليمي لم يصدر موقف رسمي بحجم الأزمة في حضرموت.

وهنا يمكن القول، إن استمرار هذه السياسيات يُهدد بتفكك قيادة الشرعية كمكون رسمي معترف به دولياً ويُعول عليه في توحيد الصف الجمهوري ضد جماعة الحوثي.