المجهر- ملف خاص3
في مدينة تعيش الأمَرَّين "الحرب والحصار"، لأكثر من ثمانية أعوام؛ فيها تبدل حال الساكنين، وصارت خطوط التماس ملجًأ للبسطاء والمشردين، ففي حي المفتش القريب من جبهتي الحرب يتجمع عدد كبير من المدنيين، غالبيتهم ينتمون إلى الفئة السمراء "المهمشين"، أولئك الذين لا يملكون سكنًا، ولا يجدون لهم مأوى سوى التخييم في الشوارع الخطرة، والأماكن القريبة من خط النار.
ويقع هذا الحي، في منطقة عُصيفرة، وسط تعز. تلك المنطقة التي كانت ولا تزال ساحة مفتوحة أمام قناصو الحوثيين، الذين يتمركزون في تبة الصبري، وجبل الوعش، وكثير من المواقع المجاورة، وبالمقابل يعيش المدنيون بين حصار القنص والقصف في منطقة باتت مقرونة بالموت.
مسكن البسطاء
ثمة سواتر ترابية تفصل حي المفتش عن مواقع الحوثيين، وبالقرب من هذه الحواجز تسكن عشرات الأسر المهمشة، محاطة بالقذائف، تحاصرهم رصاصات القناصة؛ فالعيش هنا ليس هو بالضرورة نقيض الموت، بل حتمية استمرار الحياة في ظل وضع شاذ وقاس وخطير.
ومن بين "ضرورات" الحياة هذه، كان لابد لأهل المنطقة من استمرارية الحياة في أحياء قسمتها ظروف الصراع، والحرب التي أنتجت قصصًا أكثر وجعًا وإنسانية توثقها عين المجهر بالكلمة والصورة.
بيدٍ واحدة، وأخرى مبتورة، يمر الطفل سامح أحمد، 13 عامًا وسط الحي، بخطوات مثقلة بالأسى والحزن، يعيش وحيدًا في شتات، يَدُورُ في أزقة المكان كما لو أنه يبحث عن والده الذي توفى قبل سنوات، أو يفتش عن والدته التي غادرت المنطقة جثة هامدة، إثر قذيفة عشوائية.
يروي سامح لـ "المجهر": "في الثامن عشر من ديسمبر 2020، خرجت أطلب الله على أسرتي في شوارع المدينة، أجمع المواد البلاستيكية وأبيعها مقابل مبلغ بسيط.. يومها أخبرني أحد الأهالي إن قذيفة سقطت على بيتنا".
يضيف الطفل: "توجهت مسرعًا نحو المنطقة بهدف رؤية أمي وإخوتي.. وجدت الجيران مفزوعين يتجمعوا بعيدًا عن البيت.. لم يتجرأ أحدهم على الصعود إلى المنزل، تخوفًا من سقوط قذيفة أخرى".
فزِعًا، صعد هذا الصغير إلى المنزل، ليجد والدته وشقيقته الصغيرة قد تحولتا إلى أشلاء وقِطَعٍ متفرقة تتوزع على أرجاء المنزل، لكن المفاجأة كما يقول سامح هي القذيفة الثانية التي باغتت لحظات وداعه لمن كانت له الأب والأم معًا، بل وتسببت ببترِ ذراعه الأيمن، ليقع هو الآخر ضحية قصف الحوثيين.
يتذكر سامح: "في البداية خفت خصوصًا عندما رأيت بيتنا مقصوف، والدمار يحيط بالمكان، لكن الصدمة هي عندما شاهدت أمي وشقيقتي مجرد أشلاء تتوزع على أرضية المنزل.. دخلت أبكي على والدتي، والقذيفة الثانية سقطت وبترت يدي اليمنى".
هكذا تحول الصغير، خلال دقائق معدودة من منقذ إلى ضحية، وتطورت المعاناة من وجع فقدان الأسرة، إلى إعاقة دائمة، وبالرغم من رعب الإصابة إلا أن سامح استطاع التماسك، وتمكن من مغادرة المنزل وصولًا عند تجمع الأهالي، الذين قاموا بإسعافه إلى المستشفى، وتكفلوا بإخراج ودفن الضحايا.
اليوم وبعد عامين من الحادثة، يبدو الصغير بملامح حزينة فالإعاقة تقف حجر عثرة أمام حياة الطفل، الذي يشكو من مضاعفات كثيرة، فضلًا عن حرمانه من التعليم.
وبنبرة حزينة، قال سامح إنه يريد طرفًا صناعيًا يساعده في قضاء وتسيير أمور حياته اليومية، ليتمكن من استئناف مرحلته التعليمية، والعودة إلى العمل والاستمرار في إعالة إخوانه الصغار.. هكذا تصير الأمنيات في زمن الحرب؛ فالطفل لا يحلم بأكثر من طرف صناعي يعيده إلى الحياة.
مربع الموت
يسكن أبناء الفئة المهمشة حي المفتش منذ سنوات ما قبل الحرب، وما زالوا حتى اليوم يتوسطون المكان، ويقضون حياتهم اليومية بين رعب القنص، ورهاب القصف.. وبحسب المعلومات فإن ما يقارب 60 أسرة كانت تعيش المنطقة، لكنه ومع بدايات الحرب في تعز المدينة، وحصار غالبية الأحياء السكنية، فقد لجأت العديد من الأسر المهمشة إلى هذا الحي، هربًا من الموت إلى الموت ذاته.
وتبعًا لظروف الحرب في أطراف المدينة، زاد عدد الأسر الوافدة إلى حي المفتش، الأمر الذي جعل المنطقة تزدحم بالمدنيين، حيث وصل إجمالي عدد الأسر إلى ما يقارب 85 أسرة مدنية، بجانب زيادة عدد الأطفال في خط النار، وبالتالي زيادة عدد الضحايا.
ونظرًا لجغرافية المكان "حي المفتش" الذي يتوسط عددًا من المواقع التابعة لجماعة الحوثيين، ما جعل الساكنين أمام رعب متواصل، ويوم بعد يوم يتعرض هؤلاء لسلسلة من الانتهاكات تتوزع بين القصف والقنص، والاستهداف المباشر، حيث تجد عشرات القصص في هذه المنطقة، جميعها تحاكي واقعًا يتصف بصعوبة الظروف، وتأزم المعيشة وبؤس الأيام.
والتجول أو البقاء في هذا الحي، يعني في كثير من الأحيان فقدان الحياة، بحسب بعض الساكنين، الذين أكدوا حديثهم بقصة طفل فقد حياته في شارع المنطقة قبل أشهر، وهو يلعب "الغماية" كما تسمى في قرى وأحياء تعز، والتي باتت تعرف عند هؤلاء الأهالي بـ "لعبة الموت".
وتعرف الغماية بأنها لعبة شعبية، يلعبها فريق من الأطفال.. قوانينها تبدأ بوقوف أحد الصغار في مكان ما، مغمض العينين يردد: "غاب القمر أو عاده" في الوقت الذي يبحث فيه آخرون عن أماكن للاختباء فيها.. بعدها ينتقل "الغماي" إلى البحث عن رفاقه، وهنا تبدأ خطوات اللعبة بالاتجاه إلى الملاحقة، بحيث يطرد كل لاعب يكشف هوية موقعه.
يوم الحادثة، كان الطفل أكرم، يؤدي دور الغماي، فيما أطفال آخرون يختبئون في أزقة الحي، وبين تعرجات المكان عجز الطفل عن اللحاق بالخصم كما عجز عن حماية نفسه والنجاة من الموت، خصوصًا بعدما استقرت رصاصة القناص في صدر هذا الصغير.. لك أن تتصور حجم فزع الصغار، إثر هذه الحادثة، وكيف أصبحوا يعيشون قلقًا واضطراب، ومشكلات صحية ونفسية غالبًا تقود كثيرين إلى الإنعزال عن المجتمع والوحدة.
وطبقًا لشهادات الأهالي فإن الحوثي يمنعهم من العيش بسلام، خصوصًا أنهم باتوا غير قادرين على جلب مياه السبيل، أو البحث عن الحطب، مؤكدين أن قناصة الحوثيين لا يرحمون مواطنًا، ولا يحترمون طفلًا بريئًا، أو امرأة مسالمة.. وأنهم يوزعون رصاصاتهم على مختلف الفئات، ويستهدفون كل شيء تدب فيه الروح، حتى الحيوانات لم تسلم من عبثية القتل.
ضحايا منسيون
يتعرض المهمشون في هذه المنطقة إلى مختلف أنواع الانتهاكات، حيث يشكو أبو سامي لـ "المجهر": "نحن في عصيفرة، نعاني من حصار الحوثيين، وقصفهم المنازل، وقنصهم الأطفال.. العديد من الأفراد سقطوا في هذه المنطقة بالقنص، أما القذائف فقد تسببت بقتل أسر بكامل أفرادها".
يضيف أبو سامي في حديثه: "ابني شهيد، خرج مع الأطفال يلعبوا كرة قدم، وجاءت قذيفة إلى الملعب، وصاروا أشلاء.. لمن نصيح، أو نشتكي.. الحوثي لا يرحم طفل، ولا مواطن، ولا حتى حيوان، والقناص يصطاد كل شيء".
ويؤكد الرجل بأن المدنيين في حي المفتش محاصرون من جميع الاتجاهات، إذ باتت عملية جلب المياه أو الحطب تشكل خطرًا على حياة الساكنين، خصوصًا مع انتشار الألغام العشوائية التي تزرعها ميليشيا الحوثي، على أطراف المنطقة، وتتسبب بحصد أرواح الأبرياء من النساء والأطفال.
يعود بذاكرته إلى سنوات ما قبل حرب الحوثيين على المدينة قائلًا: "كنا نأكل وعائشين، أما اليوم أصبحنا غير قادرين على توفير متطلبات حياتنا اليومية.. ظروفنا المادية صعبة، وإذا اشتغلت بألف ريال، تحتار ماذا تفعل بهذا المبلغ الصغير خصوصًا مع ارتفاع الأسعار.. الدقيق غالي، وسعر السكر مرتفع، وكذلك مختلف السلع الغذائية.. تصور حتى المياه نشتري بمقابل، وفوق هذا تخرج تشتغل ترجع من العمل تتفاجأ بوجود ضحية أو مبتور".
وتفيد المعلومات التي توصلت إليها منصة المجهر أن عدد الضحايا الذين سقطوا قنصًا وقصفًا في حي المفتش، يصل عددهم إلى ما يقارب 35 شخصًا معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى قصف خمس أسر مدنية بالقذائف، وإبادة جميع أفرادها.
ويدفع المهمشون يوميًا فاتورة الحرب، وضريبة البقاء على خط النار، فمنذ العام 2015 سجلت المنظمات الحقوقية والجهات ذات العلاقة عشرات الانتهاكات بحق البسطاء في هذه المنطقة، وتبعًا لحديث عاقل الحي فإن ما يزيد عن 40 حالة ما زالت تعاني الإعاقة والبتر، نتيجة القصف والقنص والألغام التي خلفت الكثير من الضحايا.
ويؤكد الاتحاد الوطني للمهمشين بتعز، أن هذه الأرقام تقريبية، وأن الكثير من أبناء المهمشين قتلوا برصاصات ميليشيا الحوثي، لكنهم منسيون في كشوفات الرصد والتوثيق.
ويرى كثيرون أن هذه الفئة هي الأكثر تضررًا من الحرب، بل والأشد فقرًا ومعاناة في زمن حصار المدينة، نظرًا لأن غالبية أبناء هذه الشريحة يعانون التشرد، والنزوح، فيما آخرون يتواجدون ضمن تجمعات قريبة من خطوط المواجهات.. جميعهم يعيشون أوضاعًا بالغة الخطورة، في مساكن هشة أو مخيمات متهالكة.
ويعتقد حقوقيون أن تهميش ضحايا الفئة السمراء، وعدم انصاف المتضررين من حرب الميليشيا على تعز، يعود إلى تدني مستوى وعي أسر الضحايا بحقوقهم، وعدم متابعة الجهات ذات الاختصاص، وسط تجاهل وسائل الإعلام، ومحدودية دور المنظمات المعنية برصد الانتهاكات.
اقرأ أيضا: مدنيون “يعيشون” على خط النار “طفلة الماء”.. الناجية من مصيدة الموت