جماعة الحوثي تحوّل موظفي المنظمات الأممية إلى رهائن لتغطية فشلها الأمني (تقرير خاص)

جماعة الحوثي تحوّل موظفي المنظمات الأممية إلى رهائن لتغطية فشلها الأمني (تقرير خاص)

تخوض جماعة الحوثي الإرهابية، حرب مفتوحة ضد المنظمات الأممية والدولية في صنعاء، تحولت خلال الأيام القليلة الماضية إلى موجة اقتحامات واعتقالات طالت كل مكاتب منظمات الأمم المتحدة تقريبا، واعتقلت عشرات الموظفين المحليين والدوليين تحت تهم "التجسس" المزعومة لصالح أمريكا وإسرائيل.

ومنذ مايو/آيار 2024م، وثقت منظمات حقوقية أكثر من 60 موظفاً أممياً ما زالوا محتجزين للتهم ذاتها، فيما رفضت الأمم المتحدة هذه الاتهامات الحوثية ودعت للإفراج الفوري عن المحتجزين.

لكن ردة فعل هذه المنظمات جعلها تصبح شريكاً صامتاً في لعبة الخوف التي يديرها الحوثيون أكثر من كونها ضحية بحسب مراقبين، لأنها ترضخ لعمليات الابتزاز التي تمارسها الجماعة وبذلك تحولها إلى واجهة لتمويل سلطتها وتبرير جرائمها.

ومع ذلك يكشف هذا الاستنفار، أن الجماعة تستخدم هذه الاتهامات لتغطية إخفاقاتها الأمنية والسياسية نتيجة الضربة الإسرائيلية الدقيقة التي استهدفت حكومتها في صنعاء، فيحيلون فشلهم الداخلي إلى "مؤامرة أممية" ويقدّمون العاملين الإنسانيين قرابين لدبلوماسية الرهائن.

 

استهداف متصاعد

 

في الأسبوع الأخير من أكتوبر، اقتحم الحوثيون تقريبا كل مقرات الأمم المتحدة ومنظماتها بما في ذلك مكتب المبعوث الأممي في صنعاء ومقرات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ((UNHCR وبرنامج الأغذية العالمي وأوتشا وهيومن رايتس ووتش، ورافق هذه المداهمات استخدام القوة ومصادرة الأجهزة ومستندات وبيانات عمل مهمة وكذلك تطويق مسلح للمقار.

طالت الاحتجازات موظفين من مختلف الوكالات الأممية، منها برنامج الأغذية العالمي، اليونيسف، أوتشا، مفوضية حقوق الإنسان، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إضافة إلى منظمات دولية ومحلية أخرى.

وتؤكد تقارير حقوقية أن المحتجزين يخضعون للإخفاء القسري ويُمنعون من التواصل مع عائلاتهم أو محاميهم، وأحدث شاهد على ذلك اعتقال مسؤول تقنية المعلومات في المفوضية السامية ممدوح الكثيري، أمس الجمعة، والذي تم اقتياده إلى جهة مجهولة بعد التحقيق معه، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.

كما أن الجماعة تستهدف بشكل واضح الكوادر التي تمتلك اتصالاً مباشراً بالمجتمع الدولي، ومن بين أبرز المحتجزين وسام قائد العريقي نائب مدير عام الصندوق الاجتماعي للتنمية يحمل الجنسية البريطانية، وسارة الفائق المديرة التنفيذية للائتلاف المدني للسلام، التي اعتقلت مع زوجها وأطفالها، في خطوة توضح اعتماد الحوثيين على سياسة الترهيب الأسري ضد هذه الكوادر.

 

اضطراب داخلي

 

عقب الحملة الشرسة للحوثيين مؤخراً، أفرج الحوثيون عن عدد محدود من الموظفين الدوليين، أبرزهم ممثل اليونيسف بيتر هوكينز، ونائبته لانا كتاو، والموظفة ميو نيموتو من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إضافة إلى العامل المحلي في برنامج الأغذية العالمي إبراهيم الرازحي.

لكن عمليات الإفراج المحدود لا تغير حقيقة أن الموظف المحلي أحمد باعلوي مات تحت التعذيب في إحدى السجون بمحافظة صعدة، وأن عشرات من زملائه المحليين يعيشون المصير نفسه في سجون مغلقة، بعيدًا عن أي رقابة قانونية ودون تُهم واضحة.

وفي سياق ذلك، يرى الصحفي والناشط الإنساني وائل البدري، أن الحوثيين يستخدمون ما يُعرف بـ "دبلوماسية الرهائن" كأداة ابتزاز، مستغلين حياة العاملين الإنسانيين لتحقيق مكاسب سياسية.

وفي منشور له على "فيسبوك" وصف البدري هذه السياسة بأنها جزء من اقتصاد القمع الذي تديره الجماعة، حيث تُستغل الاعتقالات في أوقات محددة ترتبط عادةً باضطرابات داخلية سياسية أو عسكرية.

فقد تكررت موجات الاعتقال بعد أحداث كبرى، منها القصف الواسع الذي استهدف مواقع الجماعة في يونيو 2024، وتصنيفها جماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة في يناير 2025، واغتيال رئيس حكومتها أحمد الرهوي في أغسطس من العام نفسه، وصولاً إلى موجة أكتوبر التي أعقبت قرار الأمم المتحدة نقل مكاتبها إلى عدن.

 

غطاء سياسي

 

شكَّل إعلان الجماعة عن تفكيك شبكة تجسس مرتبطة بإسرائيل عقب استهداف حكومتها في صنعاء، غطاءً سياسياً لهذه الحملة التي تستهدف عملياً تفكيك العمل الإنساني الدولي في مناطق سيطرتها.

وما يؤكد ذلك هو أن الجماعة فرضت منذ العام الماضي، قيود مشددة على تحركات موظفي الإغاثة، وحددت شروطاً لاختيار الشركاء المحليين والمستفيدين، ما حول المساعدات إلى أداة ابتزاز سياسي واقتصادي.

ونتيجة هذا التصعيد، أعلنت عدد من المنظمات الدولية تعليق عملياتها في مناطق الحوثيين ومنها برنامج الأغذية العالمي (WFP) قبل أكثر من شهرين، كما أوقفت الأمم المتحدة عملياتها في صعدة منذ يناير 2025.

كما قررت الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، نقل مكاتب عدد من وكالاتها إلى عدن كإجراء أمني بعد تصاعد الانتهاكات في صنعاء، ووصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، القرار بأنه جاء نتيجة لانعدام أمن مصحّح في صنعاء.

ووصفت هيومن رايتس ووتش وأمنستي إنترناشونال هذه الاعتقالات بأنها جرائم حرب، وطالبتا بالإفراج الفوري عن المحتجزين، وأدان مجلس الأمن هذه الانتهاكات واعتبرها تصعيداً خطيراً يهدد مستقبل العمل الإنساني في اليمن، ورغم ذلك لم تُتخذ الأطراف الدولية إجراءات عملية رادعة، فالإدانات اللفظية لم توقف الجماعة التي تواصل استخدام القوة ومصادرة الممتلكات واستهداف الموظفين الأمميين.

إلا أن هذا الخطوات تنذر فعلياً بتوقف المساعدات عن ملايين اليمنيين في مناطق سيطرة الحوثيين ممن يعتمدون على الإغاثة كوسيلة للبقاء، وهي ما يُفسر بأن الجماعة تريد أن فرض واقعاً جديداً يقوم على تحويل المساعدات إلى ورقة ابتزاز سياسي واقتصادي، وتبرر ذلك بادعاء مكافحة التجسس.

 

تواطؤ أممي

 

في محاولة لتبرير حملات الاعتقال الواسعة ضد موظفي المنظمات الدولية، يكرر محمد عبدالسلام الناطق باسم جماعة الحوثي ورئيس وفدها المفاوض، مزاعم الجماعة عن وجود أنشطة تخريبية وخلايا تجسس داخل المنظمات الإنسانية، مدعياً خلال لقائه بالمبعوث الأممي هانس غروندبرغ، امتلاك جماعته أدلة ووثائق تبرر احتجاز العاملين الإنسانيين، وبمنطق ابتزازي متناقض أكد حرص الجماعة على استمرار عمل تلك المنظمات.

لكن خطاب الناطق الحوثي كما يرى مراقبون، هو محاولة لتطويق العمل الإنساني وتحويل القمع إلى ذريعة سياسية، بعيداً عن أي مسار قانوني أو تحقيق مستقل، فبدلاً من عرض الأدلة أمام جهات محايدة، تستخدم الجماعة هذا الملف كورقة ضغط في مفاوضاتها مع الأمم المتحدة والدول المانحة.

الصحفي الناشط في مجال حقوق الإنسان رياض الدبعي، علّق على لقاء المبعوث بالقول إن الأمم المتحدة التي تتحدث عن بناء الثقة بين الأطراف اليمنية، باتت هي نفسها بحاجة إلى بناء الثقة مع الحوثيين.

ويضيف الدبعي في تدوينة له على "إكس" أن "الاختبار الحقيقي لهذه الثقة لا يكون في الحوارات السياسية، بل في الإفراج عن موظفي الأمم المتحدة، وفي مقدمتهم سامي الكلابي من مكتب المبعوث الأممي".

في المقابل، يرى الصحفي المختص بشؤون الجماعة سلمان المقرمي، أن المنظمات الدولية تتحمل جزءاً من المسؤولية عن استمرار هذه الانتهاكات، بسبب ما وصفه بـ "التواطؤ الصامت" مع الحوثيين.

ويقول المقرمي في حديثه لـ"المجهر" إن بعض المنظمات تستجيب لمطالب الجماعة وتغضّ الطرف عن القمع والاعتقالات، مشيراً إلى أن موظفين قُتلوا تحت التعذيب في صنعاء وصعدة دون أي موقف أممي حازم.

إصرار الأمم المتحدة والمنظمات على البقاء في صنعاء رغم كل هذه الانتهاكات، يثير بحسب المقرمي تساؤلات حول طبيعة علاقتها بالحوثيين، إذ تعتمد الجماعة على تمويل نشاطها من ميزانية هذه المنظمات التي تركت موظفيها اليوم داخل سجون الحوثيين دون موقف اعتراضي بحجم الاستهداف الذي يتعرضون له.

ويربط المقرمي هذه الاعتقالات كذلك بتداعيات أمنية داخل الجماعة نفسها، فيرى أن الحوثيين وبعد سلسلة الهجمات الإسرائيلية التي طالت واحدة منها رئيس حكومتهم ورئيس أركانهم، يعيشون حالة من الهشاشة الأمنية ويفسرون أي اختراق أو فشل داخلي بأنه تسريب من الخارج، وهنا تتحول المنظمات إلى شماعة جاهزة لتبرير فشلهم.

ويقول في خلاصة حديثه إن الجماعة تحاول من خلال احتجاز الموظفين الأمميين "حماية نفسها من الاختراق وكشف هشاشتها أمام الرأي العام"، مشيراً إلى أن حتى بعض العناصر الحوثية المشاركة في التنسيق مع المنظمات باتت اليوم تحت الاعتقال أو الملاحقة.

 

مصير مُرتقب

 

يرى محللون سياسيون أن اختطاف موظفي المنظمات بتهمة التجسس هو جزء من حملة أوسع داخل الجماعة تستهدف المديرين والمشرفين على تنسيق علاقات الجماعة مع الخارج، لأن كل اتهام يتحول إلى ذريعة لبحث داخلي عن الثغرات الأمنية والمسؤولين عنها.

وبذلك تتحول إدارة العلاقات مع الأمم المتحدة والداعمين إلى ساحة محاكمة داخلية، واليوم ينعكس الخوف الذي زرعته القيادة في صفوف عناصرها على قيادات كانت توكل إليها مهام التواصل الخارجي.

فالحملة الأخيرة ضد العاملين الأمميين هي إعلان حوثي غير مباشر عن انتهاء قدرتهم على التوفيق بين الزخم القيادي وواقع هشاشتهم الأمنية والسياسية، لأن استخدام تهمة التجسس لتبرير حملاتهم ضد المنظمات الأممية يخرج الجماعة من إطار شريك محتمل للعمل الإنساني إلى مرتكب جريمة ممنهجة ضد المدنيين والعاملين الإنسانيين.

والنتيجة عملية انتحار تنظيمي يعتمد على السرية بحسب مراقبين، والذين يتوقعون أن الأجهزة الأمنية الحوثية تتضخم وتستأثر بالقرار كلما تعاظم القلق، ما يفضي إلى مزيد من الانقسامات وتغذية دوائر الشك في أوساط الجماعة.