اندلعت شرارة أزمات اقتصادية عدة عصفت بالعالم خلال السنوات الأخيرة بعد تعطل سلاسل التوريد، بداية مع تفشي وباء كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا وارتفاع معدلات التضخم على مستوى العالم. وألقت هذه الأزمات بظلالها على حركة التجارة العالمية ما تسبب في تأثيرات كبيرة على بلدان العالم.
وبينما كان يسدل عام 2023 ستاره ومع بداية عام جديد، بدأ شبح تهديد جديد يطارد سلاسل التوريد العالمية. وكانت الشرارة من البحر الأحمر حيث قررت معظم شركات الملاحة الكبرى تغيير مسار سفنها بعيداً عن البحر الأحمر وبالتالي قناة السويس لتجنب هجمات الحوثيين.
وتبددت آمال حدوث توقف الهجمات مطلع العام الجديد مع إرسال إيران سفينة حربية إلى البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب بعد يوم من تدمير البحرية الأمريكية ثلاثة زوارق للمتمردين الحوثيين مما أسفر عن مقتل 10 مسلحين.
وقالت القيادة المركزية الأمريكية على منصة إكس، تويتر سابقاً، إن الطائرات انطلقت من حاملتي "أيزنهاور" و"جرافلي" استجابة لنداءات استغاثة من سفينة الشحن "ميرسك هانغتشو" الدانماركية، وردت بإطلاق النار على قوارب الحوثيين دفاعاً عن النفس وأغرقت ثلاثة زوارق دون ناجين على متنها بينما فر القارب الرابع من المنطقة.
ويُنظر إلى دخول السفينة الحربية الإيرانية البحر الأحمر بأنه مؤشر ينذر بتصعيد محتمل ربما يتسبب في تداعيات محتملة كبيرة على الاقتصاد العالمي.
وفي التداول الأول عقب الهجمات، ارتفعت أسعار النفط بأكثر من 2 بالمئة مدعومة بزيادة المخاوف من انقطاع الإمدادات.
ماذا حدث بالضبط؟
منذ نوفمبر / تشرين الثاني الماضي، بدأ الحوثيون في استهداف السفن في عرض البحر الأحمر تحت زعم التضامن مع غزة التي تتعرض لقصف إسرائيلي منذ هجوم حماس الإرهابي على إسرائيل في السابع من أكتوبر / تشرين الأول الماضي.
وحدثت معظم هجمات الحوثيين قرب مضيق باب المندب الضيق بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية الذي يمر من خلاله ثلث سفن الحاويات العالمية يومياً فيما أفادت وكالة الطاقة الدولية بأن قرابة 10 بالمئة من النفط المنقول بحراً يمر يومياً عبر المضيق.
ورغم أن الحوثيين يزعمون أنهم يستهدفون السفن المرتبطة بإسرائيل، إلا أنهم شنوا أكثر من مئة هجوم بطائرات مسيرة وصواريخ استهدفت كافة أنواع السفن التي تمر من خلال مضيق باب المندب منذ نوفمبر/تشرين الثاني. وكانت سفينة الشحنة التابعة لشركة "ميرسك" الدنماركية تحمل علم سنغافورة.
ويسيطر الحوثيون، وهم جماعة متمردة شيعية مدعومة من إيران، على أجزاء كبيرة من غرب اليمن منذ زحفهم إلى العاصمة صنعاء عام 2014.
وفي ردها، أعلنت الولايات المتحدة تدشين تحالف بحري، حمل اسم "حارس الازدهار"، من أجل حماية سفن الشحن في البحر الأحمر من هجمات الحوثيين مع انضمام دول عديدة مثل البحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا وسيشيل والمملكة المتحدة.
أهمية باب المندب
ويمر قرابة 12 في المئة من حجم التجارة العالمية عبر مضيق باب المندب ومنه إلى قناة السويس التي تربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر حيث تعد أقصر طريق بحري بين آسيا وأوروبا مما يجعلها نقطة عبور هامة لمصادر الطاقة حيث يمر حوالي تسعة ملايين برميل من النفط عبر القناة يومياً.
وفي ضوء الوضع المتوتر، قررت معظم شركات الملاحة الكبرى الأسبوع الماضي تغيير مسار سفنها بعيداً عن البحر الأحمر ما يعني حاجة السفن المنطلقة من الشرق الأقصى صوب أوروبا إلى الالتفاف حول القارة الأفريقية بأكملها عبر طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا. وتستغرق الرحلة أسبوعاً إضافياً مع قطع 3500 ميل بحري إضافي.
ونقلت رويترز عن الناطق باسم شركة هاباغ-لويد الألمانية، خامس أكبر شركة حاويات في العالم، قوله "نراقب الوضع عن كثب يوماً بعد يوم، لكننا سنواصل تغيير مسار سفننا حتى التاسع من يناير/ كانون الأول. وستقرر الشركة في ذلك اليوم ما إذا كانت ستواصل إعادة توجيه السفن من عدمه".
وأدت أزمة البحر الأحمر إلى تأخر وصول المنتجات مع توقعات بارتفاع أسعار المنتجات على المستهلكين بسبب زيادة تكلفة الشحن.
الآثار الاقتصادية العالمية
وعلى وقع ذلك، حذر خبراء من أن أزمة البحر الأحمر تنذر بتداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي مما سيلقي بظلاله على تكلفة شحن البضائع وسط مخاوف من أن تؤدي الأزمة، في حالة طال أمدها، إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة.
ومن المرجح أن ترتفع أسعار النفط مع خطر يهدد التعافي الهش من معدلات التضخم الجامحة.
ويُضاف إلى ذلك هاجس حدوث تصعيد خطير يتمثل في تدخل إيراني مباشر في سيناريو يعني أن عمليات الشحن عبر بحر العرب الرابط بين سواحل شبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية، ستكون عرضة لخطر الاستهداف.
وأعادت الأزمة الحالية إلى الأذهان واقعة جنوح السفينة "إيفر غيفن" في قناة السويس في مارس/آذار عام 2021 مما أدى إلى إغلاق الممر المائي لمدة ستة أيام مما تسبب في تعثر حركة الملاحة البحرية الدولية في وقت كان العالم يترقب الانتعاش عقب جائحة كورونا وأزمة سلاسل الإمداد. وخلال أزمة السفينة "إيفر غيفن"، بقت مئات السفن في البحر الأحمر لأسابيع. وارتفعت تكلفة شحن الحاوية من 2000 دولار إلى 14000 دولار. وتسببت الأزمة في تأخر وصول السلع المستوردة من آسيا لأشهر.
سلاسل التوريد أكثر قوة
ورغم أن سلاسل التوريد قد عادت إلى طبيعتها، إلا أن التهديد الأمني في البحر الأحمر قد يؤدي إلى مضاعفة الأسعار خلال الأسابيع القليلة المقبلة خاصة بعد ارتفاع أسعار عمليات الشحن العالمية بعد قرار هيئة قناة بنما تقييد حركة الملاحة لمدة عام كامل سبب الجفاف الذي أدى لانخفاض مستوى المياه اللازمة لتشغيل الممر الحيوي للتجارة البحرية بين المحيطين الأطلسي والهادئ.
لكن يبدو أنه من رحم المعاناة يولد الأمل؛ إذ تعلمت شركات الشحن الدرس جيداً مع توالي الأزمات منذ تعطل سلاسل الإمداد إبان جائحة كورونا. وعلى إثر ذلك، قامت العديد من الشركات بتوسيع أسطولها من سفن الشحن، مما يعني أن قرار تغيير مسارها بعيداً عن البحر الأحمر لن يكون كارثياً.
وفي ذلك، قال لارس جنسن، المتخصص في النقل البحري لدى شركة "فسبوتشى ماريتايم" فى كوبنهاغن، "إنه في الوقت الحالي، لدينا عدد زائد عن الحاجة من سفن الحاويات حتى في أسوأ السيناريوهات والمتمثل في الاستمرار في عبور طريق رأس الرجاء الصالح لبعض الوقت".
ورغم ذلك، حذر خبراء من أن الخطر الأكبر يكمن في استمرار الأزمة وتفاقمها ما يدفع المزيد من السفن إلى إعادة توجيه مسارها صوب رأس الرجاء الصالح لفترات زمنية طويلة، فضلاً عن خطر اتساع الصراع في الشرق الأوسط سيكون بمثابة نذير شؤم على الاقتصاد العالمي في العام الجديد.