في مؤشر واضح لعدم قبولها بأي اتفاقية سلام قادمة في البلاد، شرعت جماعة الحوثيين المصنفة على قوائم الإرهاب الأمريكية، في الآونة الأخيرة، إلى هيكلة المؤسسات الحكومية الواقعة تحت سيطرتها وذلك فيما يتعلق بالاختصاصات التنظيمية للوزارات في حكومتها غير المعترف بها دوليا.
واستهدفت الاجراءات المثيرة للجدل القانوني إلغاء اللوائح الخاصة بوزارة مالية صنعاء واستبدالها بأخرى صممت وفقا لرغبة جماعة الحوثي، ما اعتبرها مختصون تعقيدات إضافية لأي اتفاق حول إنهاء الازمة في اليمن.
كما أن الإجراءات الحوثية في مجملها مخالفة للدستور اليمني والقوانين المالية القائمة في البلاد، وليس لها من غرض إداري عدا أنها تتيح للجماعة الاستحواذ المباشر على إيرادات الجهات الحكومية والخاصة.
بالإضافة لذلك، تحدث التقرير الأخير لفريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الدولي، عن محاولات متكررة للحوثيين من أجل طباعة عملة نقدية خارج البلاد، بما وصفته الجماعة بالحق الاقتصادي السيادي، الأمر الذي يكشف استمرار رفضها لتوحيد السياسية النقدية مع بنك عدن.
وبطبيعة الحال، تعمد جماعة الحوثي المدعومة من إيران إلى اتخاذ إجراءات مالية واقتصادية باعتبارها قرارات حرب، بما تمكنها من إدارة عملياتها العسكرية وشراء السلاح وذلك دون أدنى التزام تجاه رواتب الموظفين الحكوميين وأوضاع المواطنين المعيشية.
اقتصاد منفصل
في 28 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الجاري، أعلنت جماعة الحوثي عن إصدار لوائح بشأن ما أسمته "تحديد الأهداف والمهام والاختصاصات العامة والتقسيمات التنظيمية الرئيسية" لعدد من الوزارات في حكومة الجماعة غير المعترف بها، بما في ذلك وزارة المالية.
وقبلها بأيام، أصدرت جماعة الحوثي قراراً بشأن ما أسمته "استكمال عملية الدمج والتحديث للهياكل التنظيمية لوحدات الخدمة المدنية" ما وصفه مختصون بالخطوة الخطيرة نحو صياغة الجماعة لنموذج شامل خاص بها وعدم استعداداها للشراكة المستقبلية مع أي طرف.
وكانت اللوائح التي قام الحوثيون بإصدارها قد استندت على الاتفاق السياسي الذي تم في 28/7/2016م مع حزب المؤتمر الشعبي العام في صنعاء، بالرغم من انفراد الجماعة بتشكيل الحكومة التي أعلنت عنها في 10 أغسطس/ آب من العام الجاري.
وأظهرت أربع وثائق متعلقة بتغيير اللوائح المالية – حصل المجهر على نسخة منها – توجه جماعة الحوثي نحو إعادة تنظيم وزارة المالية في حكومتها بغرض احكام قبضتها على مصادر الإيرادات العامة والمختلطة والمنح والمساعدات الدولية.
هذه اللوائح التي حملت توقيع رئيس ما يسمى المجلس الأعلى للحوثيين المدعو مهدي المشاط ورئيس حكومتهم المدعو أحمد غالب الرهوي، تمنح الجماعة حق الاشراف والمتابعة والتدخل والتحكم بجميع السياسات المالية للجهات الاقتصادية الخاصة والعامة.
كما تضمنت دمج مصلحة الضرائب مع مصلحة الجمارك، تحت مسمى "مصلحة الضرائب والجمارك"، وتحت سلطة مباشرة من القيادي الحوثي المنتحل صفة وزير للمالية المدعو عبدالجبار أحمد محمد، مع أحقية الجماعة في زيادة الضرائب والجمارك على جميع السلع والبضائع التجارية.
ويرى محللون اقتصاديون أن هذه الإجراءات تكشف خطة الحوثيين للسيطرة بشكل كامل على السياسات النقدية للبنوك والمصارف في مناطق سيطرتها، متوقعين أن هذا من شأنه أن يزيد من تعقيد الأزمة الاقتصادية في البلاد وتعميق حالة الانقسام النقدي بين بنكي صنعاء وعدن.
إجراءات عبثية
تأتي الإجراءات المالية التي سنتها جماعة الحوثي على القطاع العام والخاص، في وقت تعيش فيه البلاد أوضاع اقتصادية كارثية ألقت بظلالها على الوضع المعيشي لليمنيين ناهيك عن تأثر البنوك والمصارف نتيجة القيود التي تفرضها الجماعة.
وفي هذا الإطار، يبين رئيس مركز الإعلام الاقتصادي مصطفى نصر، أن التغييرات التي أجراها الحوثيين في اللوائح المنظمة " تأتي كجزء من جملة التغييرات التي قامت بها الجماعة كدمج بعض الوزارات وتغيير المسميات".
لكن نصر، لا يرى أن المشكلة في تغيير الهياكل واللوائح المنظمة للوزارات والمؤسسات الحكومية بحد ذاتها، وإنما المشكلة وفق تقديره في حال لم تبنى وفق رؤية سليمة.
وفي حديثه لـ"المجهر" يحذر الخبير الاقتصادي مصطفى نصر، من أي إجراءات حوثية عبثية والتي قال إنها ستكون مُكلفة وقد تقود إلى تعطيل عمل المؤسسات وعدم الاستفادة من الكفاءات والقدرات.
وأضاف: " في حال لم يكن هناك معايير للتعيينات ستمثل هذه التغييرات فرصة للمحسوبية وتعيين الموالين للجماعة في هذه المؤسسات الهامة ومفاصلها المختلفة، ناهيك عن أن أي عمليات تغيير في الهياكل المؤسسية للدولة ولوائحها يصعّب العودة للحلول السلمية للأزمة اليمنية حيث يصبح كل طرف لديه هياكل ومؤسسات خاصة به".
ويشير إلى هذه الإجراءات ستساهم في توسيع حجك الانقسام بين جماعة الحوثي والحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، مما يضع صعوبات كبيرة امام الحل الاقتصادي والحد من الانقسام.
استحواذ مباشر
تزعم جماعة الحوثيين أنها تهدف إلى إعادة تنظيم الهياكل المالية والإدارية للوزارات والمؤسسات الواقعة تحت سيطرتها، وذلك بدعوى توحيد السياسات المالية، إلا أن هذه اللوائح تثير جدلاً قانونيا كونها مخالفة الدستور اليمني والقوانين المالية القائمة.
في السياق، يقول عضو نيابة استئناف محافظة تعز القاضي نبيل المقطري، إن توجه الحوثيين نحو هذه التغييرات يُفسر كجزء من مشروع الجماعة الساعي لتعزيز قبضتها الاقتصادية والاجتماعية بما يتماشى مع توجهاتها السلالية.
ويشير القاضي المقطري في حديثه لـ"المجهر" أن هذه الاجراءات ستتيح للجماعة الاستحواذ المباشر على إيرادات الجهات الحكومية والخاصة، بما في ذلك الضرائب والجمارك. كما أنها تمنح سلطات واسعة لزيادة الضرائب.
وركز على أن من أبرز التعديلات التي أقرتها جماعة الحوثي هو دمج مصلحتي الضرائب والجمارك في كيان واحد، مبيناً أن ذلك سيعمل على تعزيز سيطرة الحوثيين على التدفقات المالية والاقتصادية في مناطق نفوذهم.
وحذر المقطري من هذه التغييرات التي قال إنها تُنذر بآثار كارثية على المستوى المعيشي والاقتصادي، مما يعمّق الانقسام النقدي ويعقَّد أي جهود لإصلاح الوضع الاقتصادي في اليمن وتعزيز الاقتصاد الوطني ككل.
حُجة قانونية
من وجهة نظر قانونية، يمكن القول إن اللوائح المالية الجديدة التي أصدرتها جماعة الحوثي تثير قضايا دستورية وقانونية خطيرة وفقا للدستور اليمني والقوانين المنظمة للشؤون المالية.
وبحسب المقطري، فأنه لا يجوز لأي جهة غير معترف بها دوليا أن تُصدر أو تُعدل لوائح تؤثر على السياسة المالية والاقتصادية، كما أن هذه الإجراءات تتعارض مع مبدأ سيادة القانون، وتُعتبر انتهاكا للصلاحيات الحصرية للسلطات التنفيذية والتشريعية الشرعية.
واستعرض الخبير القانوني وعضو الهيئة الادارية لنادي قضاة اليمن فرع تعز القاضي نبيل المقطري، عددا من النقاط القانونية المثيرة للقلق أبرزها أن اللوائح التنظيمية صادرة عن سلطة أمر واقع وتفتقر إلى الشرعية القانونية لإجراء من هذه التعديلات.
كما أنها تعد تدخلا في اختصاصات الدولة، حيث تشمل اللوائح الجديدة منح الجماعة سلطة الإشراف الكامل على الإيرادات العامة والخاصة، وهذا يتعارض مع مبدأ فصل السلطات واستقلالية المؤسسات المالية العامة. وفقا للمقطري.
ويضيف أن هذه التعديلات فرض ضرائب وجمارك إضافية بدون موافقة تشريعية يزيد من الأعباء المالية على المواطنين، لافتاً إلى أنه يمكن الطعن فيها أمام المحاكم اليمنية والدولية باعتبارها غير دستورية ومخالفة للقانون الدولي.
ويستنتج القاضي نبيل المقطري في خلاصة حديثه لـ"المجهر" إلى أن هذه الإجراءات تُصنَّف كجزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى تمويل عمليات الجماعة، مما يثير قضايا تتعلق بتمويل الإرهاب واستغلال السلطة لتحقيق أهداف سياسية.
مصادر تمويل
تحدث تقرير صادر عن فريق الخبراء المعني باليمن والتابع للجنة العقوبات في مجلس الأمن الدولي عن مساعٍ حوثية متكررة لتزوير العملة اليمنية وجوازات السفر، وبوسعهم استخدامها في تمويل عملياتها العسكرية دون الخشية من كشف أمرهم.
وقال التقرير الصادر منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، " بصرف النظر عن توجيههم رسالة قوية بشأن مطالبتهم بحقهم الاقتصادي السيادي في إصدار عملتهم الخاصة، اعتمدوا هذا التدبير لتوليد الأموال دون الاعتماد على مصادر خارجية".
وذكر الخبراء في التقرير - أطلع المجهر على نسخة منه – إن هناك ثلاث محاولات قام بها الحوثيون لطباعة عملات ورقية مزورة، أحدها في آب/أغسطس 2023م بواسطة مطبعة في الصين.
وحصول فريق الخبراء على معلومات عن تواصل الحوثيين مع شركة في إندونيسيا لتوريد ورق الأمن والحبر ولوازم طباعة أوراق العملات الورقية والسندات الإذنية والطوابع المالية وجوازات السفر، ليتمكنوا من عمل ذلك في صنعاء.
وأشار التقرير الدولي إلى أن "كلاً من البنك المركزي اليمني في عدن أو حكومة اليمن لم يتقدما بأي طلب من هذا القبيل لدى هذه الشركة".
ووفقا للمصادر التي حصل عليها فريق الخبراء، فأن الحوثيين يهدفون لإصدار المزيد من النقود سواء المعدنية أو الورقية لغرض تمويل أنشطتهم الحربية، وتحديد مكانتهم كمركز قوة لاقتصاد مستقل.
أزمة سيولة
يرى رئيس مركز الإعلام الاقتصادي مصطفى نصر، أن محاولات جماعة الحوثي لإصدار عملة نقدية، تأتي في إطار سعيها لمعالجة مشكلة الأزمة في السيولة التي تعاني منها في مناطق سيطرتها، إلى جانب تفعيل إجراءات الريال الالكتروني.
ويوضح الخبير الاقتصادي مصطفى نصر في حديثه لـ"المجهر" أن جماعة الحوثي لجأت إلى محاولة إصدار عملة نقدية في الخارج بهذه الصورة لحل مشكلة السيولة كونها تفتقر للاعتراف الدولي، الأمر الذي جعلها تواجه تحديات متواصلة في هذا الجانب.
وبدأت المعركة الاقتصادية بين صنعاء وعدن أواخر العام 2019م بعدما قررت جماعة الحوثي حظر التعامل مع الطبعة الجديدة من العملة الوطنية الصادرة عن مركزي عدن، الأمر الذي جعل مناطق سيطرة الحوثيين من أزمة السيولة.
ولجأت جماعة الحوثي خلال السنوات الماضية إلى القيام بإنزال المبالغ التالفة من العملة المحلية إلى السوق والمقدر بأكثر من 18 مليار ريال، وذلك لمحاولة سد الاحتياج الكبير من السيولة النقدية.
وتعتمد حكومة الحوثيين (غير المعترف بها) في تعويض أزمة السيولة في مضاعفة الجبايات والضرائب والجمارك المفروضة، فيما تواجه أزمة انهيار العملة المحلية بصرامة من خلال إجبار البنوك وشركات الصرافة على تثبت بسعر صرف لا يتجاوز 560 ريالا مقابل الدولار.
ويرى خبراء اقتصاديون، أن الحل الوحيد لإنهاء الأزمة الاقتصادية في اليمن يكمن في توحيد السياسة النقدية بين بنك صنعاء الخاضع للحوثيين والبنك المركزي في عدن المتعامل معه دوليا.