الأربعاء 11/ديسمبر/2024
عاجلعاجل

فوضى الإيرادات.. مؤسسات حكومية ترفض التوريد للمركزي والعملة الصعبة تغادر عبر المطار (تقرير خاص)

فوضى الإيرادات.. مؤسسات حكومية ترفض التوريد للمركزي والعملة الصعبة تغادر عبر المطار (تقرير خاص)

في الوقت الذي تعجز فيه الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا عن توفير نفقات تشغيلية، منذ أن تسببت هجمات جماعة الحوثي الإرهابية، على موانئ تصدير النفط الخام، الواقعة ضمن مناطق نفوذ الحكومة لا سيما محافظتي حضرموت وشبوة، وغيرها من الاجراءات والاختلالات التي تتخلل هرم السلطة، فمنذ استقرار المركزي اليمني في العاصمة المؤقتة عدن، ترفض غالبية المؤسسات الحكومية والجهات ذات الإيرادات الضخمة توريد أي مبالغ إلى الحسابات المخصصة لها والمفتوحة من طرف البنك المركزي، بل وتواصل حتى اليوم توريد الأموال إلى حسابات جارية في البنوك التجارية والإسلامية، وغيرها من شركات الصرافة.

يقول خبراء اقتصاديون، إن 60% من المؤسسات والجهات الإيرادية التابعة للحكومة اليمنية، ما زالت ترفض توريد عائداتها المالية إلى خزينة البنك المركزي، وتصر على إيداع أموالها إلى حسابات خاصة في شركات الصرافة والبنوك التجارية، كي يتسنى لها الصرف دون رقابة، وبطرق غير قانونية بحجة التماشي مع الوضع الاستثنائي الذي تعيشه البلد في ظل ظروف الحرب الحوثية والانقسام النقدي الذي فرضته الجماعة، الأمر الذي يفسر وضع سلطة الشرعية الهش، وعدم فرض سياسة حازمة وخطط لحشد الموارد.

وأكد مراقبون ومطلعون أن عدة محافظات يمنية خاضعة لسيطرة الحكومة، رفضت منذ الانقلاب الحوثي والسيطرة بقوة السلاح على العاصمة صنعاء، حيث امتنعت كلًا من محافظة مأرب وتعز والمهرة، عن توريد أي مبالغ مالية إلى مركزي عدن، ومع ذلك يجد المركزي اليمني نفسه أمام مشكلة كبيرة، ففي ظل عدم قدرته على حشد الموارد من قبل مؤسسات الدولة، يطالبه موظفو الحكومة بصرف مرتباتهم والتصعيد عبر الاحتجاجات المتكررة والاضرابات الجزئية، ما يجعله يصرف عشرات المليارات شهريًا لتغطية احتياجات مكاتب السلطات المحلية.

 

فساد متجذر

 

وسط تساؤلات عن مصير إيرادات الحكومة الهائلة، وكشف المستور خلف رفض العديد من المؤسسات والقطاعات في الوزارات والهيئات الحكومية، تتدفق إيراداتها إلى حسابات بنكية تجارية مختلفة، حيث توضح مدى تجذر الفساد المالي داخل مؤسسات الدولة، وهذا يجعل من الصعب على البنك المركزي إدارة هذه الأموال المودعة بشكل قانوني. 

وخلال سنوات الحرب، ظلت الحكومة المعترف بها تعمل وفق موازنة تقديرية للإيرادات والنفقات، فيما يتم تغذية العجز من خلال أدوات الدين المحلي وحشد التمويل الخارجي، وتذهب الإيرادات إلى خارج البنك المركزي.

في السياق، أفادت مصادر مطلعة، أن عائدات النفط كانت تُورد إلى حساب الحكومة في البنك الأهلي السعودي، بينما باقي المؤسسات الإيرادية فتحت لها حسابات في البنوك التجارية وهذا ما فتح مجالًا واسعًا للفساد وغياب دور وزارة المالية في الحكومية، ليقود هذا التخاذل إلى تدهور الوضع الاقتصادي وانهيار مستمر للعملة الشرعية.

 

امتناع غير مبرر

 

حصل "المجهر" على العديد من الوثائق، التي توضح جملة من التفاصيل المتعلقة بقرارات الحكومة التي قوبلت بالتجاهل التام من قبل الجهات الإيرادية، ففي منتصف العام 2019، وجه وزير المالية، أحمد عبيد الفضلي، بإغلاق جميع الحسابات الحكومية في البنوك التجارية والإسلامية وفتح الحسابات في البنك المركزي اليمني، مستندًا على المادة (52) من اللائحة التنفيذية للقانون المالي رقم (8) لعام 1990، وتعديلاته بشأن توريد الإيرادات بالبنك المركزي اليمني وفروعه؛ واستناداً لقرار مجلس الوزراء رقم (67) لعام 2018م بشأن إغلاق كافة الحسابات لدى البنوك التجارية والإسلامية وفتح حسابات في البنك المركزي اليمني بالعاصمة المؤقتة عدن.

لكن الحال باقٍ دون تغيير، ففي تعميم وزير المالية رقم (7) لسنة 2020، وجه سالم صالح بن بريك، بتوريد الموارد المحصلة أولاً بأول إلى البنك المركزي اليمني عدن وفروعه في المحافظات وفي المواعيد المحددة قانونًا، وعدم الاحتفاظ باي مبالغ طرف أمناء الصناديق أو تجنيب أي مبالغ منها في حسابات خاصة خارج الحسابات المحددة في مركزي عدن وفروعه؛ وعدم صرف أي مبالغ من الموارد المحصلة لأي وجه من أوجه الانفاق مهما كانت الأسباب أو المبررات مما يعد ذلك مخالفة دستورية وقانونية تستوجب على مرتكبها المساءلة القانونية.

وأكد التعميم على ضرورة التقيد التام بموافاة وزارة المالية بكشوفات الإيرادات الشهرية والمحددة باليوم العاشر من الشهر التالي للشهر المقدم عنه التقرير وعدم تأخيرها لأي سبب من الأسباب، والتقييد التام بأحكام القوانين واللوائح والقرارات النافذة وتنفيذها بكل دقة في عملية التحصيل والصرف.

وفي وثيقة أخرى، حصل عليها "المجهر"، صادرة في التاسع من شهر سبتمبر/أيلول 2021، حيث جاء في تعميم لوزارة المالية بقيادة الوزير صالح بن بريك، أنه يمنع منعاً باتاً قيام أية جهة بفرض وتحصيل أية رسوم أو عوائد وتوريدها إلى حساب أي جهة بالمخالفة لأحكام الدستور والقوانين النافذة ما عدا الجهات المخولة قانوناً بذلك، كما يمنع توريد أية مبالغ يتم تحصيلها إلى أية حسابات أخرى غير الحسابات المخصصة لها والمفتوحة طرف البنك المركزي اليمني المركز الرئيسي -عدن- وفروعه بالمحافظات.

من جديد طالب الوزير بن بريك، في 29 أغسطس/آب 2023، بإغلاق جميع الحسابات لكافة وحدات الخدمة العامة لدى البنوك التجارية والإسلامية وشركات الصرافة وعدم توريد الموارد إلا إلى الحسابات المخصصة لها والمفتوحة طرف البنك المركزي اليمني الرئيسي عدن وفروعه في المحافظات والالتزام بأحكام القوانيين واللوائح والقرارات النافذة؛ والتقييد برفع كافة الكشوفات للحسابات الجارية الممسوكة في الجهات مرفق بها بكشف ميزان المراجعة البنكي الشهري خلال فترة أسبوع من تاريخه مالم سوف تتخذ الإجراءات القانونية تجاه المخالفين حفاظاً على المال العام في ظل هذه الظروف المالية الصعبة والامتثال لقواعد الضبط والرقابة والتفتيش وفقاً للمادتين (56،57) من القانون السالف الذكر.

ورغم تعدد التوجيهات الحكومية إلا أنها لم تُطبق على أرض الواقع حتى اليوم، فغالبية الجهات الإيرادية (ضرائب جمارك أم جهات خدمية)، لا تزال ترفض الإيداع والتوريد في خزينة البنك المركزي اليمني في عدن، وتصر على الاستمرار وفق الحسابات الخاصة لدى شركات الصرافة والبنوك التجارية، ما يثبت حجم المخالفات والعبث الحاصل في الأجهزة والجهات ذات العلاقة، سيما أن البنك المركزي بعدن لم يتخذ أي اجراءات لمنع فتح حسابات للجهات الحكومية لدى البنوك التجارية وشركات الصرافة، وهذا ما يزيد من نشاط المضاربة بالعملة.

 

احتواء فوضي الإيرادات

 

اقتصاديون قالوا إن الحكومة المعترف بها قادرة على فرض سيطرتها على الإيرادات، عبر عملية حصر الحسابات التي ترفض التوريد إلى خزينة البنك المركزي، وذلك يتطلب تنسيقًا مع وزارة المالية، وقد تأخذ هذه المهمة وقتًا للعمل على إعداد قائمة شاملة بالحسابات المخالفة، ورغم ذلك يعتقد مراقبون أن الحكومة عازمة على إغلاق هذه الحسابات حفاظًا على الإيرادات التي ستغذي الخزينة العامة.

وأوضحوا أن مركزي عدن ووزارة المالية رصدا نحو 320 حسابًا بنكيًا تتضمن إيرادات من الوزارات والهيئات الحكومية، لكنه تم إغلاق 90 حسابًا حتى الآن، ما يعني أن هناك حوالي 230 حسابًا آخرًا ما زال يحول إليها جزء كبير من الأموال العامة دون أي رقابة، ويعتبر هذا الرقم بمثابة مؤشر خطير على حجم التلاعب بالإيرادات المالية في مناطق الحكومة، وبالتالي تتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلد.

وحذرت من استمرار وجود قرابة 230 حسابًا لا يخضع لأي نوع من الرقابة من البنك المركزي أو وزارة المالية، خشية أن ينهار الاقتصاد الوطني بصورة غير متوقعة، نظرًا لأن بقاء هذه الحسابات تفتح الباب أمام المزيد من الفساد المالي والتلاعب بالإيرادات الحكومية، علمًا أن الاقتصاد يعاني من تدهور حاد في ظل شح السيولة المالية والتضخم المتزايد.

 

هدر الموارد

 

يقول المحلل الاقتصادي وفيق صالح لـ "المجهر": "في الحقيقة شيء صادم أن نكتشف الآن بأن المؤسسات الحكومية ما تزال تملك حسابات مالية في شركات صرافة وبنوك خاصة، خارج إطار البنك المركزي، ولا تورد إلى البنك المركزي.. هناك مئات المؤسسات والهيئات الحكومية ما تزال تعمل على توريد إيراداتها إلى منشآت صرافة وبنوك تجارية وخاصة، وبالتالي هذا يمثل مخالفة كبيرة للقانون ويعمل على تفشي الاختلالات وزيادة الفساد في القطاعات الحكومية كما أنه يعمل على مفاقمة العجز المالي وعجز المالية العامة للدولة".

ويشدد صالح في حديثه: "من المهم أن تسعى الحكومة حاليًا إلى إغلاق الحسابات الحكومية في البنوك التجارية ومنشآت الصرافة، نظرًا لأنها تعمل على هدر الموارد وهذا يعمل على تفشي الفساد، ويسهل عملية نهب المال العام. 

ويوضح المحلل الاقتصادي أن إغلاق هذه الحسابات وتوريد كافة موارد المؤسسات الحكومية إلى حساب واحد في البنك المركزي يعزز من رقابة الحكومة على القطاعات العامة، ويعمل على تعزيز الرقابة والشفافية على الأداء الحكومي؛ كما يسهل عملية تتبع الحركة المالية، ويقلص حدوث أي هامش لعملية الفساد أو نهب الموارد.

ويعتقد أن بقاء الوضع المالي كما هو عليه وتوريد الموارد إلى حسابات أخرى في البنوك التجارية، يساعد بشكل كبير على انتشار الفساد ويعمل على حدوث اختلالات واسعة ويسهل عملية نهب المال العام؛ كما أنه يُضعف عملية الرقابة الحكومية على أداء المؤسسات التابعة لها وهذا بالتأكيد لا يساعد الحكومة في تجويد أدائها، كما لا يساعدها على تحقيق أهدافها العامة في الجانب الاقتصادي، سواء في تنمية الموارد المحلية أو الخارجية أو عملية تحقيق الاستقرار المعيشي والاقتصادي.

 

استنزاف العملة الصعبة

 

فاقم التشرذم الاقتصادي بين المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، وتلك التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً، معاناة اليمنيين حيث يؤدي التفاوت في معدلات التضخم وأسعار الصرف إلى تقويض أسس الاستقرار وجهود التعافي في المستقبل.

ومنذ عام 2023، تدهور الاقتصاد الوطني الحكومي، وزاد الانهيار المتسارع للعملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وهذا ما انعكس على الظروف المعيشية لغالبية المواطنين، ناهيك أن التوترات الإقليمية، وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، إلى انخفاض حركة الملاحة بأكثر من 60%، عبر مضيق باب المندب الاستراتيجي وقناة السويس، ما أسفر عن زيادة كبيرة في أسعار المستهلكين.

ولقراءة هذا الوضع الاقتصادي المتردي، وتحليل الأسباب ستجد أن قضايا غسيل الأموال إلى خارج اليمن تعد واحدة من المشكلات، التي تضاعف حجم التضخم، حيث كشفت مصادر معنية بمكافحة الفساد، أنه جرى غسل أموال ضخمة خلال عامي 2023 و2024م، تقف خلفها الحكومة والبنك المركزي في عدن، تتمثل بإخراج مبالغ مالية بالعملة الصعبة إلى خارج الوطن، تبعًا لأوامر من قبل محافظ البنك.

وأكدت وثائق رسمية، حصل عليها "المجهر" أن عام 2023، شهد إخراج مبلغ وقدره 690 مليون دولار أمريكي عبر مطار عدن الدولي فقط، فيما شهد العام الجاري 2024 إخراج أكثر من 2,463 مليار سعودي، بالإضافة إلى 3 ملايين دولار أمريكي، و300 مليون ريال يمني، جميعها تعادل قرابة 2.2 تريليون ريال ريمني، وجميعها خرجت من مطار عدن فقط.

وبحسب الوثائق، فقد توزعت المبالغ بالسعودي على الأشهر الماضية (من يناير حتى أكتوبر) من العام الجاري، على النحو التالي: يناير 592 مليون ريال، فبراير 620 مليون ريال، مارس 218 مليون ريال، أبريل 226 مليون ريال، مايو: 110 ملايين ريال، يوليو 377 مليون ريال، سبتمبر: 110 ملايين ريال سعودي، أكتوبر 90 مليون درهم إماراتي (ما يعادل 90 مليون ريال سعودي) و105 ملايين ريال سعودي.

وأشارت المصادر إلى أن مبالغ بالعملة الصعبة وكميات من الذهب خرجت من منافذ أخرى، أهمها مطار الريان ومنافذ شحن وصرفيت والوديعة، وسط تساؤلات اليمنيين عن الهدف من إخراج تلك المبالغ الضخمة في ظل الانهيار الحالي للعملة المحلية؟ ولماذا لا يتم توجيه هذه المبالغ لتعزيز استقرار العملة أو تحسين الخدمات الأساسية للشعب؟ مطالبين السلطة القضائية بفتح تحقيق شفاف وعاجل مع محافظ البنك المركزي، وإعلان النتائج للرأي العام، وفقاً لما تنص عليه القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية.