أثارت الخطوة الأحادية لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزُبيدي بشأن سلسلة تعيينات في مؤسسات سيادية ووزارات حساسة جدلاً واسعًا، إذ اعتبرها سياسيون مؤشرًا على فتح الباب أمام انقسامات محتملة داخل مجلس القيادة الرئاسي.
هذه التحركات، التي جاءت بالتزامن مع بيان سياسي شديد اللهجة للانتقالي يتهم شركاءه في الشرعية بـ"الانتقاص من حقوق الجنوب وعرقلة تنفيذ اتفاق الرياض"، تشير إلى استعداد المجلس للدخول في خيارات تصعيدية تشمل تحركات ميدانية مع مزيد من القرارات، ما يهدد وحدة المجلس واستقراره الداخلي.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تمثل فيه إصلاحات البنك المركزي، المتعلقة بتنظيم الواردات ومكافحة المضاربة بالعملة، أبرز نقاط التوتر مع الانتقالي، الذي يرى فيها تهديدًا لمصالحه.
في الوقت ذاته، قد يعيد هذا الصراع طرح التساؤلات حول قدرة مجلس القيادة على إدارة الخلافات الداخلية والحفاظ على توازن الصلاحيات، خصوصًا بعد عودة رئيس المجلس رشاد العليمي ونائبيه سلطان العرادة وعبدالله العليمي إلى عدن، وهو ما فُسر على أنه اختبار حقيقي لموقف المجلس من النزعة الانفرادية للانتقالي.
صراع نفوذ
لم تأتِ الأزمة التي صدرها الانتقالي من فراغ، حيث سبقها إعلان استقالة رئيس الهيئة العامة للأراضي سالم ثابت العولقي، الذي تحدث بوضوح عن تدخلات حالت دون إجراء إصلاحات إدارية داخل الهيئة، حيث واجت قراراته لإصلاحات إدارية في عدن عرقلة ممنهجة ورفضًا للتسليم.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن هذه الاستقالة تكشف طبيعة الصراع الخفي بين قيادة الانتقالي وبقية الشركاء في السلطة حتى من بعض الأعضاء في المجلس نفسه، حيث يسعى الأول للسيطرة على المؤسسات ذات البعد المالي والإداري لتعزيز نفوذه على حساب التوافقات الوطنية.
ولم تقتصر التعيينات الأحادية على منصب رئيس الهيئة العامة للأراضي خلفًا للمستقيل سالم العولقي، حيث شملت نواب لوزارتي الإعلام والصناعة والتجارة، إضافة إلى وكلاء في محافظات شبوة، المهرة، لحج، أبين، الضالع، وسقطرى.
هذه القرارات اعتبرها قانونيون "باطلة"، كونها صدرت من جهة لا تملك صلاحيات التعيين في المناصب العليا للدولة، ما يضع المجلس الانتقالي في خانة التمرد على مؤسسات الشرعية التي يفترض أن يكون جزءًا منها.
وترافقت هذه القرارات مع بيان شديد اللهجة كشف عن توجه متعمد لتصوير الصراع كقضية "هوية وحقوق جنوبية" في محاولة لخلق مبررات على خرق التوافقات، وهو ما يراه الانتقالي فرصة لاستغلال مشروع الانفصال تحت مظلة الشراكة القائمة.
إثارة الشارع
واصل المجلس الانتقالي لغة التصعيد عبر نقابة الصرافين الجنوبيين التابعة له، والتي شنّت هجومًا مباشرًا على قيادة البنك المركزي اليمني في عدن، متهمة محافظ البنك أحمد المعبقي ووكيل الرقابة منصور راجح بارتكاب مخالفات مالية وإدارية ممنهجة على مدى أربع سنوات.
البيان الصادر عن النقابة تضمن اتهامات خطيرة تتعلق بإدارة مزادات العملة بطرق غير شفافة، ومنح تراخيص عشوائية لشركات صرافة، والسماح بمضاربات منظمة على العملة مؤخرًا، أفضت إلى نهب مدخرات المواطنين.
لكن هذه الاتهامات تطرح تساؤلات جوهرية حول أسباب صمت النقابة طوال السنوات الماضية ثم التحرك فجأة بهذا الزخم، وفي هذا التوقيت تحديدًا، وهذا يكمن وفق محللين اقتصاديين، في رغبة الانتقالي بإلقاء اللوم كاملا على إدارة البنك في عدن، وتبرئة نفسه من مسؤولية الانهيار الاقتصادي.
كما أن بيان النقابة، الذي صيغ بلغة سياسية أكثر من كونها مالية أو مهنية، لم يكتفِ بالحديث عن المخالفات ووجّه دعوة صريحة إلى البنك الدولي ومجلس التعاون الخليجي للتدخل المباشر في عمل البنك بدلاً من دعوته لإسناده، في خطوة خطيرة تمس سيادة القرار الاقتصادي اليمني.
وهذا التصعيد المزدوج من قبل الانتقالي بحسب سياسيين، يعكس سياسة متعمدة تتمثل في إثارة غضب الشارع الجنوبي ضد البنك المركزي وقيادة الشرعية، ثم تقديم الانتقالي كمنقذ أو بديل قادر على إدارة الملف المالي، وهو ما يشكّل تهديدًا مباشرًا لاستقرار الاقتصاد الوطني.
استثمار الأزمات
لم تكن إحاطة المجلس الانتقالي لوسائل الإعلام، أمس الخميس، سوى محاولة مكشوفة للتغطية على أزماته الداخلية، فبدلًا من مواجهة الاتهامات المتصاعدة بالفساد ونهب الإيرادات، اختار المجلس المزايدة بادعاء أنه الداعم الأول للإصلاحات الاقتصادية، متجاهلًا أن هذه الإصلاحات فرضتها الحكومة والبنك المركزي بإسناد دولي، وأن الانتقالي كان أبرز المتضررين منها بسبب مصالح بعض قياداته في شركات الصرافة والسوق السوداء.
وبالعودة إلى جذور القضية، يوضح مصدر حكومي مقرب من الرئاسة لـ"المجهر" أن التعيينات التي أصدرها الزُبيدي شملت شخصيات كانت مرشحة منذ فترة لهذه المناصب، إلا أن الزُبيدي لم يتمكن من تمريرهم سابقا بسبب عدم التوافق مع أعضاء آخرين في مجلس القيادة ممن كان لهم مرشحين لنفس المناصب.
ووصف المصدر الحكومي هذه القرارات بأنها تُعد "قفزًا للأمام" من قبل الانتقالي، حيث نُفذت بالقوة من خلال أجراء دور الاستلام والتسليم في المناصب المحددة في القرارات.
ومع ذلك، بدا موقف الرئيس رشاد العليمي متماهيا أو على الأقل متسامحا مع شطحات الانتقالي، حيث تحرك بأريحية في اليوم التالي، والتقى في عدن برئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي محسن يحيى طالب، ورئيس المحكمة العليا، ووزير العدل، مشيدًا بدور بالقضاء.
محللون سياسيون يرون في ذلك مؤشرًا واضحًا على أن دول التحالف ربما تقبلت هذه الإجراءات أو أعطت ضوءا أخضر بقبول القرارات ضمنيًا، لإصدارها لاحقًا ضمن قرارات رئاسية.
أما في الشق الأمني، فقد بالغ المجلس في تصوير نفسه كدرع للاستقرار في البلاد من خلال التلويح في إحاطته بخطر جماعة الحوثي والإرهاب، في وقت تشهد عدن والمحافظات الجنوبية انفلاتا أمنيا وصراعات داخلية من حين لآخر، كما تحولت بعض مؤسسات الدولة في العاصمة المؤقتة إلى غطاء لمراكز نفوذ تابعة للانتقالي.
سياسيًا، ورغم حديثه عن الشراكة الحكومية، فإن الانتقالي يواصل تقويض مؤسساتها في محاولة لفرض وصايته على القرار الاقتصادي والإداري، وهو تحدٍ صارخ للاتفاقات التي وقع عليها، كما أن ما وصفه بالإنجازات ليس أكثر من استثمار في الأزمات التي ساهم بنفسه في تفجيرها.
مظلَّة فساد
اختار رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزُبيدي التصعيد السياسي عبر قرارات أحادية وشعارات شعبوية بدلًا من دعم جهود الإصلاح ومواجهة الفساد، علاوة على أن قراراته تفتقر إلى المشروعية القانونية وتتناقض مع الاتفاقات التي التزم بها، بما في ذلك الترتيبات المرتبطة بقرار نقل السلطة.
ووفقًا للصحفي عبدالعزيز المجيدي، فإن الزُبيدي لجأ إلى هذا المسار باعتباره مخرجًا لتجاوز أزماته الداخلية والتصدعات المتزايدة داخل المجلس الانتقالي، عبر نقل الصراع إلى الخارج وافتعال مواجهة مع مجلس القيادة الرئاسي، دون اكتراث بتداعيات ذلك على المواطنين، خصوصا إذا ما تعرضت الإصلاحات الاقتصادية للبنك المركزي لأي انتكاسة.
كما أن استقالة رئيس الهيئة العامة للأراضي سالم العولقي، شكّلت محطة مفصلية في تفجير هذه الأزمة، لكونه اصطدم بشبكة النفوذ التي يديرها الانتقالي في ملف الأراضي، وهو ما دفعه لتقديم استقالته.
ورغم محاولات الزُبيدي امتصاص الموقف بدفع العولقي للتراجع، إلا أنه تجاوز صلاحيات الحكومة والرئاسة بتعيين بديل له، في خطوة تكشف بحسب المجيدي، أن المجلس الانتقالي تحول إلى "مظلَّة لحماية الفاسدين" ولم يعد مجرد طرف سياسي.
ويضيف الكاتب والصحفي المجيدي في حديثه لـ"المجهر"، أن هذه الأزمة هي امتداد لسلسلة من الخلافات الداخلية بدأت بين الزُبيدي وشلال شائع، ثم مع محافظ عدن، قبل أن تتفاقم بفعل ضغوط البنك المركزي والحكومة لإغلاق الحسابات الإيرادية في شركات الصرافة وإجبار المؤسسات على توريد إيراداتها إلى البنك المركزي، وهو ما مسّ مباشرة بمصادر تمويل الانتقالي.
واختتم المجيدي تحليله بالتأكيد على أن "خطاب المظلومية الجنوبية الذي يستدعيه الزُبيدي اليوم لم يعد قادراً على إخفاء حقيقة الانتقالي ككيان متورط في الفساد، بل وحامٍ له، على حساب الاستقرار السياسي والاقتصادي في الجنوب".
مأزق داخلي
يؤكد الكاتب والباحث اليمني نبيل البكيري، أن المجلس الانتقالي الجنوبي يسعى إلى افتعال أزمات متتالية كوسيلة للهروب من أزماته الداخلية المتفاقمة، محذرًا من أن هذه السياسات قد تدفع الأوضاع في الجنوب نحو مزيد من التعقيد والتفكك.
وأوضح البكيري في تصريحه لـ "المجهر" أن الأزمة الأولى التي دفعت الانتقالي إلى هذا المسار ترتبط بالإصلاحات الاقتصادية والإجراءات النقدية التي تبنتها الحكومة الشرعية عبر رئيس الوزراء سالم بن بريك ومحافظ البنك المركزي أحمد المعبقي.
هذه الإصلاحات حققت استقرارًا نسبيًا في سعر الصرف بضغط دولي كبير، حسب وصف البكيري، وهو ما عُدّ إنجازا يُحسب للحكومة بشكل عام ولا يحسب للانتقالي.
وأضاف: "الانتقالي وجد نفسه خاسرًا، كون عددا كبيرا من شركات الصرافة التابعة لقياداته تضررت مباشرة من هذه الإجراءات، الأمر الذي زاد من توتره واندفاعه نحو التصعيد".
أما الأزمة الثانية، فيشير البكيري إلى أنها تتعلق بملف أراضي الدولة، حيث اصطدم رئيس الهيئة المستقيل سالم ثابت العولقي بلوبي نافذ داخل الانتقالي متورط في عمليات نهب الأراضي.
ويرى البكيري أن هذه الاستقالة عمّقت الانقسام داخل المجلس الانتقالي، وفتحت الباب أمام صراع مناطقي متجدد، حيث برز تيار محسوب على شبوة وأبين ضمن مسار سالم العولقي في مواجهة تيار آخر مرتبط بالزبيدي وقيادات الضالع.
ويشير إلى أن الزُبيدي تخلّى عن العولقي وفضّل التضحية به، في مؤشر على أن قراراته الأخيرة لم تكن سوى محاولة للهروب من هذه الانقسامات الداخلية، مؤكداً أن ما يقوم به الانتقالي اليوم ليس سوى تهربًا من أزماته عبر افتعال مواجهات مع الشرعية والتحالف، لكن ذلك لن يحل أزماته البنيوية، بل سيضاعفها.
وفي خلاصة تحليله يعتقد الكاتب والباحث اليمني نبيل البكيري، أن المرحلة المقبلة ستشهد مزيدًا من التعقيد، وربما انكشافًا أكبر لحقيقة الانتقالي كمكون مأزوم داخليًا يسعى لجرّ الشارع معه إلى المجهول.
تابع المجهر نت على X