مع اقتراب الذكرى الـ63 لثورة 26 سبتمبر، التي أسست للنظام الجمهوري في اليمن وأنهت الحكم الإمامي، برزت محاولات جماعة الحوثي الإرهابية لتزييف الواقع الوطني وربط نفسها بما لا يمكن أن يكون لها فيه نصيب، سوى انكشاف مساعيها لمحاولة تشويه إرث الثورة الوطني وربط ذكرى الحرية بمناسبة انقلابية طائفية.
ظهور بعض قادة وناشطي الحوثيين متوشحين بالعلم الجمهوري في مواقع التواصل الاجتماعي ليس مشهدا بريئا أو تعبيرا حقيقياً عن الانتماء الوطني، فالجماعة التي أطاحت بمؤسسات الدولة في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014، تسعى اليوم بكل جرأة لأن ترتدي ثوب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، لإخفاء جريمة الانقلاب التي أعادت البلاد إلى الكهنوت.
واليمني البسيط حين يرفع العلم يفعل ذلك تعبيرا عن رفضه للمشروع الحوثي الدخيل وعن تمسكه بالجمهورية كهوية جامعة، أما المنتمي للحوثيين حين يرفعه، فإنه لا يرى فيه سوى وسيلة لركوب موجة شعبية جارفة لا يستطيع إخمادها، وفي رأسه يختزن أفكارا عنصرية وحقدا على كل يمني جمهوري، في كراهية متجذرة لكل ما مثّلته ثورة سبتمبر من تحرر وعدالة.
محاولات التزييف
إن محاولة الجماعة تزييف الوعي بلغت حد الادعاء بأن انقلاب 21 سبتمبر جاء لتصحيح مسار ثورة 26 سبتمبر، لكن أي تصحيح هذا الذي صادر رواتب الموظفين وحرم الناس من الخدمات الأساسية ودفع ملايين اليمنيين إلى هاوية الجوع والفقر، بينما انتفخت بطون قادتها من أموال النهب والجبايات، فكيف يمكن لانقلاب دمّر الدولة أن يتحدث عن حماية أهداف ثورة أسست الجمهورية وحفظت كرامة الإنسان؟
في خطاب مليء بالمفارقات المؤدلجة، يدّعي القيادي محمد علي الحوثي ورئيس ما يسمى باللجنة الثورية للجماعة أن "الجمهورية بخير، وأن ثورة 21 سبتمبر جاءت لحماية أهداف ثورة 26 سبتمبر، وأن العلم مرفوع في التحرير والسبعين، وعلى قمم الجبال، وفي الطائرات المسيّرة والصواريخ".
لكن أي علم هذا الذي يرفرف فوق صواريخ إيرانية موجهة لا لخدمة الشعب، وإنما لابتزازه وقمعه، وأي أهداف تلك التي تُرفع شعاراتها في الوقت الذي تُداس فيه كرامة المواطن وتُطمس معالم الجمهورية في المناهج والمؤسسات الرسمية؟
ويتداول ناشطون حوثيون هذا الخطاب على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس احتفاءً بـ26 سبتمبر بل هروباً منها، وحتى عبارتهم المتكررة "سبتمبر مجيد" فهم يعنون بها الحادي والعشرين انقلابهم الدموي.
ولهذا يتجنبون ذكر الثورة الأم، لأنهم يعرفون أن وهجها التاريخي أكبر من أن يواجهون حقيقته، وهم يحاولون يستبدلون يوم الجمهورية بيوم الانقلاب، ويسعون عبر الدعاية الممنهجة أن يصنعوا ذاكرة زائفة، لكن التاريخ لا يُكتب بالكذب، والشعب الذي أجبرهم على رفع العلم سيقوم يوماً بدحر الانقلاب.
حالة ارتباك
بينما يحتفل اليمنيون بذكرى ثورتهم المجيدة في 26 سبتمبر، يحاول الحوثيون ركوب هذه المناسبة الوطنية لتسويق مشروعهم الطائفي والسياسي، وتحويلها إلى مناسبة لتلميع ذكرى نكبة 21 سبتمبر التي شهدت سقوط صنعاء في قبضتهم، لكن الوقائع على الأرض تكشف زيف ادعاءاتهم وتفضح محاولاتهم المستمرة لتزوير التاريخ لصالح مشروعهم الانقلابي.
يقول الصحفي اليمني المتخصص في شؤون جماعة الحوثي، سلمان المقرمي، إن الحوثيين خسروا حتى الآن المواجهة مع فكرة ثورة 26 سبتمبر، مؤكداً أن محاولاتهم لطمس الذكرى أو الالتفاف عليها باءت بالفشل أمام حضورها المتجذر في وجدان الشعب اليمني.
وفي حديثه لـ"المجهر" يوضح المقرمي، أن الجماعة باتت اليوم في موقع حرج، فهي من جهة تحرص على تجنب أي مواجهة مباشرة مع الشارع في ذكرى الثورة، ومن جهة أخرى تلجأ إلى أساليب القمع كالاعتقالات والخطف.
ويضيف: "نلاحظ أنهم يتوشحون بالعلم الجمهوري ويزعمون الحرص عليه، لكن الفرق كبير بين الاحتفال الحقيقي بذكرى 26 سبتمبر وبين مجرد التوشح بالعلم، وهذا السلوك يعكس حالة ارتباك واضحة، فهم يخافون من غضب الشارع ويحاولون امتصاصه، لكن ذلك سينقلب عليهم في النهاية".
ويشير المقرمي أن هذه الازدواجية تمنح اليمنيين فرصة للتقدم خطوة إلى الأمام، قائلاً: "بما أن الحوثي قَبِل ولو شكلياً الحديث عن 26 سبتمبر وعن العلم الجمهوري، فإن على الشعب أن يوسع مساحة الاحتفال وأن يفرض حضوره في الشارع، وإذا كانت الجماعة حريصة على ألا تصطدم مباشرة مع الناس في هذه المناسبة، فعليها أن تسمح لهم بالاحتفال دون اعتراض".
معركة وعي
تبقى ثورة 26 سبتمبر معركة وعي متجددة، وكل محاولة حوثية لطمسها تزيد من تمسك المواطنين بها، لأن الانقلاب على الجمهورية سيبقى وصمة عار، بينما تظل 26 سبتمبر عنوان التحرر والكرامة لليمنيين.
الصحفي همدان العليي، وصف هذا المشهد في تدوينة له على منصة "إكس" بشكل لا يقبل اللبس، مبيناً أن الحوثيين يحاولون المزاحمة في الاحتفال بما يكرهون ويخافون الاعتراف بعداوتهم له، فادعاءاتهم بالاحتفال بالثورة تتناقض جذريًا مع عقيدتهم القائمة على الولاية السلالية، وهو تناقض يثير السخرية ويفضح المسرحية السياسية التي يقودونها أمام الشعب.
وعلى مستوى المظاهر، يوضح وكيل وزارة العدل فيصل المجيدي أن الحوثيين يرفعون العلم الجمهوري زوراً وكأنهم من رواد الثورة، بينما الواقع أن 26 سبتمبر تمثل قبر أحلامهم في الاستعلاء الإلهي والسلالي، وفق تدوينة له على منصة إكس.
وبدوره يشدد نائب مدير عام الإعلام بمحافظة تعز عادل مارش، على أن مسؤولية الشعب حماية إرث 26 سبتمبر من أي تحريف أو استبدال بنكبة 21 سبتمبر، وأن على كل محاولة منهم لتزييف التاريخ الوطني أن تصطدم بإرادة الشعب اليمني الراسخة، وإيمانه بالجمهورية والحرية والوحدة.
والأمر لا يتوقف عند الزيف الداخلي، بحسب الباحث د. ثابت الأحمدي، فالحوثي يكشف الوجه الأخطر له، والذي يعمل به لصالح الخارج، بما فيها الكيان الصهيوني، ويستخدمون الفرص التاريخية لزرع الفوضى والخراب في اليمن، أما محاولة ربطهم بالثورة الوطنية فيقول الأحمدي في تدوينته على "إكس" إنها ليست سوى خدعة سياسية مكشوفة.
حتى الصحفي المقرب من الحوثيين، محمد المقالح، يعترف بالحقائق التي يحاولون إنكارها، ويقول من على منصة "إكس" إن ثورة 26 سبتمبر رمز الكرامة والانعتاق من العبودية السياسية، مؤكداً أن الجمهورية ملك لكل اليمنيين، هذا يفضح محاولاتهم الرخيصة لادعاء الانتماء الوطني ويضع أصابع الاتهام مباشرة على مشروعهم الطائفي الكهنوتي.
الذاكرة الوطنية
تعد ثورة 26 سبتمبر بالنسبة لليمنيين، كما يوضحها الشيخ حمود سعيد المخلافي، رئيس المجلس الأعلى للمقاومة الشعبية: "ميلاد أمة وانعتاق شعب؛ وإحياء لإرث اليمن الحضاري المجيد وللأدوار المشرفة لسبأ وحمير وأوسان وقتبان، ولجيل الفاتحين اليمنيين في جيوش العالم، إنها إعادة اتصال بكل ذلك الإرث العظيم، إثر انقطاع تسبب به الحضور الثقيل المتقطع للمشروع السلطوي السلالي المقترن بالتخلف والظلامية والموغل في الرعونة الطائفية والمحبوس داخل عقدة الاصطفاء الفئوي والسلالي".
في حين تحولت الحرب التي اندلعت عقب انقلاب 21 سبتمبر 2014 إلى نكبة شاملة طالت كل بيت يمني، لم تكن مجرد صراع سياسي أو عسكري، حيث أنها خلفت وراءها خسائر بشرية هائلة، نزوح ملايين، انهيار الاقتصاد، تراجع التعليم، وتفاقم الفقر بشكل غير مسبوق.
وتؤكد المؤسسات الإنسانية الدولية أن اليمن أصبح أحد أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم المعاصر، مع ملايين يعانون من انعدام الأمن الغذائي وخطر الموت جوعاً، وأعداد هائلة من الأطفال خارج المدارس، وخسارة لعقود من مكتسبات التنمية البشرية، وكل هذه المؤشرات تثبت أن 21 سبتمبر لم يكن سوى بداية مأساة وطنية حقيقية، وليست إنجازاً ثورياً كما يحاول الحوثيون تصويرها.
في المقابل، تمثل ثورة 26 سبتمبر 1962 الانعتاق من الاستبداد وبناء الدولة الحديثة، وإطلاق مشاريع التنمية، وتعزيز التعليم والصحة، وتوسيع الحريات وحقوق الإنسان، والانفتاح على المجتمع الدولي.
ورغم ادعاءات الحوثيين بأنهم ليسوا ضد 26 سبتمبر، فإن الواقع على الأرض يكشف عكس ذلك، من خلال العبث بالمناهج الدراسية إلى إعادة إنتاج ممارسات الإمامة بصيغتها القمعية، وكل هذه الإجراءات تؤكد أنهم يسعون لإلغاء الثورة في وعي اليمنيين وإعادة الإمامة بصيغتها التقليدية.
كما أن الاقتصاد المنهار والمشاريع التنموية المتوقفة والخدمات الأساسية المتدهورة، وحقوق الإنسان باتت عرضة لانتهاكات واسعة، كل ذلك يعكس بوضوح الفرق بين الإنجاز الذي مثلته ثورة 62 والنكبة التي جاء بها الحوثيون.
والخلاصة -وفق مراقبين- أن كل احتفال حوثي بمناسبة 21 سبتمبر ليس سوى محاولة بائسة لتشويه الذاكرة الوطنية، وما يزيدهم إحراجاً أن كل عام يزداد فيه الزخم الشعبي للاحتفال بـ26 سبتمبر، مما يثبت أن الثورة الحقيقية لا يمكن تزويرها.
تابع المجهر نت على X