الخميس 21/نوفمبر/2024
عاجلعاجل

مدنيون "يعيشون" على خط النار.. خطوط التماس: حياة مُحاصرة بالموت

مدنيون "يعيشون" على خط النار.. خطوط التماس: حياة مُحاصرة بالموت

المجهر- ملف خاص 1

"نعيش بخوف وقلق.. نتوقع الموت يأتي بأية لحظة".. بهذه المفردات الممزوجة بالخوف الدائم، والقلق من المجهول تصف الثلاثينية سعاد صالح حياة أسرتها المحاصرة بالموت قنصًا وقصفًا، وبؤس الأيام التي تعيشها في خطوط التماس، وظروف الحرب التي جعلتهم في استسلام واضح أمام الموت، وتلخيصًا لقصتها المليئة بمشاعر الحزن، ودموع الفقدان، وحياتها التي تحولت بفعل الحوثيين إلى جحيم من المعاناة.

منذ العقد الماضي، تعيش سعاد، وهي متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، في منزل بسيط، يتكون من طابقين، بحي المطار القديم، غرب مدينة تعز، حيث كانت هذه الأسرة تشكل مثلًا للتعايش والاستقرار، بجانب تقاسم الزوجين مسؤوليات الحياة وتوفير متطلبات المعيشة.

لكن ومع البدايات الأولى للحرب في اليمن، وحصار الحوثي لمدينة تعز، تحولت الأحياء الغربية إلى خطوط تماس، الأمر الذي جعل الأسرة بين نارين.. تتحدث سعاد لـ "المجهر": "جاءت حرب الحوثيين قلبت حياتنا، وأصبحنا نعيش رعب يومي وسط رصاص القناصة والقذائف العشوائية.. صارت بيوتنا محاصرة من كل اتجاه".

اقرأ أيضا: اليمن: الاتفاق السعودي الإيراني.. من الخاسر الشرعية أم الحوثيين؟!

وعلى الرغم من موجات النزوح التي حدثت خلال سنوات الحرب، في كثير من أحياء ومناطق تعز إلا أن هذه الأسرة لم تستطع النزوح، ومغادرة خطر المكان، تبعًا لظروفها المادية، وعدم قدرتها على تحمل تكاليف العيش والسكن بعيدًا عن منزلهم الأم.

تؤكد المرأة: "منذ بداية الحرب، ونحن لم نغادر هذا المنزل، ظروفنا لا تسمح بالانتقال إلى المناطق الآمنة، ولا نمتلك امكانيات العيش والسكن بالإيجار، ودفع مبالغ شهرية، لذا فضلنا البقاء في خط المواجهات".

تلتقط نفسًا، وتتابع: "حُوصِرنا بين القنص والاشتباكات أيام كثيرة، لا نستطيع الدخول أو الخروج من المنزل لشدة المواجهات واستمرار القناص برصد المنطقة، وقتل كل شيء يحدث حركة دون تمييز".

ولأن الحي، ساحة مفتوحة أمام عدسة القناص، فقد أصبحت الحركة ممنوعة، والضحية من يتصرف بعشوائية وارتباك أو من لا يضبط خطواته ويحسب تحركاته قبل تنفيذها، فالقناص لم يستثنِ أحدًا، تبعًا لحديث سعاد، فإن زوجها كان يتسلل ليلًا أو قبل طلوع الشمس بهدف جلب المياه والطعام لأسرته المحاصرة.

هكذا تبدو الحياة على خطوط النار محفوفة بالمخاطر، مليئة بالأحداث والقصص المؤلمة، ومن لم يمت بالحرب مات جوعًا، فالبقاء في هذه المناطق يعني التأرجح بين الحياة والموت. وكثيرة هي المعاناة التي تعيشها هذه الأسرة حتى اليوم، فالحصار والموت وفقدان الزوج والولد ثلاثي المعاناة التي تشكوها سعاد.

وجع الفقد

مؤلمٌ، أن ترى طفلك يموت قصفًا، أمام عينيك حد تعبير الناجية سعاد، ففي الأشهر الأخيرة من العام 2022، سقطت قذيفة عشوائية أرسلها الحوثيون من الجانب المقابل على منزل الزوجين سعاد وماهر، وتسببت بمقتل الأخير إلى جانب ولده عاصم، البالغ من العمر خمسة أعوام، وإصابة طفل آخر ينتمي لنفس الأسرة، ناهيك عن الدمار الذي لحق بالمنزل.

يومها، لم تكن سعاد قادرة على استيعاب الحادثة المؤلمة والفقدان الكبير لرب الأسرة، وطفلها الصغير.. تتذكر: "يوم القصف، كنت في منزل الجيران، يبعد قليلًا عن بيتنا.. بعد القصف مباشرة، ذهبت إلى المنزل بخطوات منهارة، ووجدت طفلي وزوجي قد فارقا الحياة".

اقرأ أيضا: اليمن: ثنائي الحصار والخذلان يخنقان مدينة تعز

تتوقف المرأة عن الحديث، وبعينين دامعتين تشرحان وجع هذه الأم التي تفقد السيطرة على دموع تتساقط دون استئذان، في كل مرة تتذكر حادثة الفقدان المبكر، أو تستعيد مشاهدًا من تلك اللحظات المؤلمة التي ما زالت حاضرة في ذاكرتها، وتشكل لها رعبًا يوميًا.

وبصوت ممزوج بالحسرة والتعب، تشرح المرأة أن واقعة قصف الأسرة وانتشال الضحايا، ومشاهدة صغيرها بقميص مضرج بالدماء، وتفاصيل الوداع الأخير في مقبرة الشهداء محفورة في الذاكرة، لم تتمكن من تجاوزها أو النسيان، مؤكدة أن حياتها ساءت بعد الرحيل المفاجئ لرب الأسرة، وعمودها الاقتصادي، ومعيلها الوحيد، حيث أصبحت تمر بظروف معيشية صعبة.

وتضيف سعاد: "حياتنا ساءت بعدما فقدت زوجي. كان ركن البيت، يشتغل يوميًا، ويصرف على الأسرة، أما اليوم أصبحنا في جحيم، وظروفنا صعبة، والمنظمات لا تقدم لنا المساعدات".

التعايش مع الموت

اليوم وبعد حادثة القصف وتدمير المنزل الذي تسكنه هذه الأسرة، ووفاة اثنين من أفرادها، تجد سعاد أمر الرحيل من الحي غير مناسبًا، فهي التي تسعى جاهدة لأن تتدبر الاحتياجات اليومية لأطفالها، تعجز في الوقت نفسه عن تغطية تكاليف السكن والعيش وسط المدينة، لذا تحاول التكيف مع المخاطر، والتعايش مع الموت.

وفي حديثها لـ "المجهر" قالت: "مجبرون على العيش في خطوط التماس، بسبب ظروفنا الخاصة.. لا نملك امكانيات تؤهلنا للنزوح إلى المناطق الآمنة، نحتاج تكاليف إيجار، وسكن، وغيرها من أمور المعيشة.. نعيش هنا وسط المخاطر، ونرى الموت يوميًا أمام أعيننا".

في ذات المنزل، ونفس المكان تعيش سعاد، وما تبقى من أولادها، محاطة بالخوف والقلق، يتوسطون مخاطر القصف والقنص، يشاهدون الموت يوميًا أمام أعينهم، ويتوقعون أن يغدرهم في أية لحظة، وذلك هو حال البقاء الإجباري بالقرب من المواجهات وخطوط النار.

أحجار، ثياب، وأشياء بلاستيكية، وضعتها الأم على نوافذ المنزل الذي تسكنه الأسرة بغرض الحماية، فالعيش هنا لم يعد يسمى سكنًا، نظرًا لحالة الحصار التي يعيشها المدنيون في خطوط النار، والمتتبع لحياة هؤلاء باستطاعته أن يلمس جزءًا من المعاناة، يجلسون في منازلهم بقلق، غير قادرين على الخروج بحرية نهارًا، أو إنارة الأضواء ليلًا.

وسط حالة من الحصار، وتقييد الحركة، تعيش الأسرة حياة مأساوية، وعلى مرمى حجر من القناص تشكو الطفلة رغد ماهر، من عدم قدرتها على الخروج لممارسة طقوس اللعب، داخل الحي، كما لا تستطيع الذهاب إلى المدرسة في غالبية الأيام.. "نخرج بالسر، قبل فترة خرجنا من أجل نلعب بالحي، والقناص ضرب علينا، افتجعنا وخفنا، بعدها انتظرنا خلف البيت نراقب القناص، وتهربنا تهريب.. ما نقدر نخرج نلعب، لأننا خائفين من الضرب، أما المدرسة نخرج بسرعة، يوم نروح ويوم لا بسبب القناص.. هذه رصاصة، سمعتها الآن".

ولأن القناص يحاصر المنطقة، ويمنع الخروج، فقد اعتاد الساكنون خلال السنوات الماضية البقاء في المنازل، بؤساء لا يستطيعون جلب المياه أو الطعام إلا في أوقات محددة، يعبرون من طرق سرية، ويختبئون خلف المنازل والبنايات.. ليس أمامهم خيار سوى التفاعل مع الحياة من أطرافها الخطرة، حد تعبير الكثيرين.

مغامرة يومية

العيش في خطوط التماس، يعني الاستعداد اليومي للموت أو لفقدان قريب أو صديق كما يقول جمال عارف، الذي يضطر إلى الخروج من منزله عند السادسة صباحًا، متسللًا بين الأشجار، يمشي بخطوات بطيئة حاملًا أجزاء من الأشجار بهدف التمويه، تجنبًا الوقوع ضحية قناصة الحوثيين.

وفي المدينة، يقضي الرجل يومه بالعمل في النجارة، أما رحلة العودة إلى المنزل فقد يتأخر موعدها حتى بعد حلول الظلام.

إلى جانب المغامرة والتعايش اليومي مع المخاطر، تجد هؤلاء البسطاء يعيشون حالة من الكفاح، والبحث الدائم عن طريق تقودهم نحو الحياة، والنجاة من الموت.. معتصم صادق، نازح من منطقة الحيمة، والهارب من حرب الميليشيا إلى خط المواجهات بحي المطار، حيث تسكن أسرته في منزل هش، ومُدَمَّر، وفوق هذا يؤكد الشاب بأن الحوثيين ما زالوا يستهدفون الحي بالقذائف، والرصاص.

وفي الجوار، يسكن علي نجيب، الذي يرى أن البقاء في خطوط التماس، شيئًا عاديًا بالنسبة للبسطاء المدنيين، الذين لا يمتلكون قوت يومهم؛ لكن المؤلم -حد تعبيره- هو الخوف والرعب الذي يعيشه الساكنون هناك بشكل شبه يومي.. "عندنا رعب وخوف كبير من عشوائية القنص والقصف.. توقع تأتي قذيفة في هذه اللحظة، أو يبدأ القناص مسلسل القتل اليومي.. تصور عندي طفل يعيش حالة قلق مستمرة، بمجرد أن يسمع رصاصة، ينطلق بسرعة إلى تحت السرير من شدة الخوف والهلع".

بين ناري الحرب والحصار، تعيش عشرات الأسر، ومئات المدنيين في مناطق خطرة، تقرب كثيرًا من المواجهات وخطوط التماس، ليس رغبة بالمغامرة، بل مجبرون على البقاء في تعايش مع الموت.

وتفيد المعلومات التي حصل عليها "المجهر" بأن ما يقارب 40% من الأسر التي تقع منازلها في خطوط التماس التي تحيط بمدينة تعز، لم تغادر خطر تلك المناطق تبعًا لعدم قدرتها ماديًا على النزوح والتشرد، وعجزها عن تحمل شتات العيش، وبحسب الاحصائيات فإن ما يزيد عن 500 أسرة، ما زالت تعيش مناطق خط النار، محاطة بمخاطر الموت، وتتعرض يوميًا للكثير من الانتهاكات.