سلطة القمع ترتجف.. حملة اعتقالات حوثية تستهدف أكاديميين وتربويين في إب (تقرير خاص)

سلطة القمع ترتجف.. حملة اعتقالات حوثية تستهدف أكاديميين وتربويين في إب (تقرير خاص)

لم تعد اعتقالات الحوثيين تتعلق بإجراءات أمنية ولا بضرورات مرحلية كما تدّعي الجماعة، بل أصبح مشهدًا متكرّرًا لسلطة تُحكم قبضتها عبر الخطف والترهيب، وتدير المحافظات المختطفة كأنها معسكر اعتقال مفتوح.. إنها سلطة ترى في كل معلّم مستقّل خطرًا، وفي كل شيخ قبلي غير موالٍ لها مشروع تمرد قادم. 

لكن يبدو كما لو أن المشهد انقلب بصورة عكسية، فالخوف لم يعد يسيطر على قلوب اليمنيين، بل ارتدّ إلى داخل أجهزة جماعة الحوثي الإرهابية نفسها، حيث أصبح السلاح مثقلًا بالذعر، وكأن الجماعة باتت تسمع أصوات الانهيار في كل همسة معارضة، وتلمح شبح السقوط في غضب اليمنيين. 

هذا ما تكشفه حملة الاعتقالات الأخيرة التي اجتاحت محافظة إب، وامتدت لتطال العشرات من التربويين والأطباء والرموز الاجتماعية، دون تهم واضحة أو مبرر قانوني، وهو ظا يعكس حجم الارتباك داخل الجماعة، في دلالة أنها تختبئ خلف أجهزة القمع، وتقاتل بيأس ضد مجتمعٍ بدأ يفقد صمته وصبره على القهر اليومي والبطش المستمر.

 

حملة منظمة

شهدت محافظة إب خلال الأيام القليلة الماضية حملة اعتقالات غير مسبوقة، طالت عشرات المدنيين، بينهم أكاديميون وتربويون ووجهاء اجتماعيون، وسط حالة من الذعر والقلق في أوساط الأهالي، الذين أكدوا أن الحملة بدأت بشكل متقطع، وأخذت طابعًا منظمًا ومسعورًا، ما أثار تساؤلات كثيرة حول دوافعها، والرسائل التي تسعى جماعة الحوثي لإيصالها في هذا التوقيت، خاصة في ظل تصاعد التململ الشعبي في مناطق سيطرتها.

أفادت مصادر مطلعة لـ "المجهر"، أن حملة الاعتقالات الأخيرة في محافظة إب شملت مختلف المديريات، وتركزت بشكل خاص في "ذي السفال"، "المخادر"، "جبلة"، "مذيخرة"، "حبيش" وكذلك مركز المحافظة. 

ففي مديرية ذي السفال، اختطفت جماعة الحوثي الأستاذ مختار الشغدري، بعد أن تلقى اتصالًا هاتفيًا من أحد عناصرها، بدعوى الحديث معه في موضوع بسيط، مع إعطائه وعودًا غير مباشرة بالعودة إلى منزله فور انتهاء النقاش؛ إلا أن تلك الوعود كانت مجرد فخ، إذ ما زال مصيره مجهولًا حتى اليوم. 

وفي مديرية جبلة، أقدمت جماعة الحوثي على اقتحام منزل الأستاذ "مطيع عبد الله نعمان الطيار" في ساعة مبكرة، بينما كان يستعد لأداء صلاة الفجر، حيث اقتحم عناصر الجماعة المنزل دون إذن قضائي، وفرضوا حالة من الرعب داخل الأسرة، مهددين بتفجير المنزل إن لم يُسلِّم نفسه. وحسب المصادر، فإنه تم اقتياد "مطيع الطيار" أمام أطفاله وزوجته بالقوة إلى جهة مجهولة، بعد أن قامت العناصر المسلحة بتفتيش المنزل تفتيشًا دقيقًا، ومصادرة هاتفه الشخصي وهاتف زوجته.

 

استدراج وإخفاء

وشملت حملة الاعتقالات أيضًا الدكتور طه الحفيظي، أحد الكوادر الأكاديمية المعروفة في المحافظة، والذي تلقى اتصالًا هاتفيًا من أحد عناصر جماعة الحوثي بطريقة تنطوي على تهديد مباشر، يخيّره بين الحضور الطوعي إلى أحد مقرات الجماعة أو التعرض للاعتقال القسري في حال رفضه. 

وتفيد المصادر أن هذا النمط بات متكررًا في استدعاءات الجماعة، يجمع بين الترهيب اللفظي والتلويح باستخدام القوة المباشرة، مشيرةً إلى أنه تم اقتياد الدكتور "الحفيظي" إلى جهة مجهولة، دون أي مذكرة رسمية أو توضيح للأسباب، ما يشكل انتهاكًا صارخًا للحق في الحرية والأمان الشخصي. كما طالت الحملة الأستاذ "علي حسن بن أحمد الصبري"، أحد الوجوه التربوية البارزة والقيادي المحلي في حزب الإصلاح بمديرية المخادر. 

وذكرت المصادر أن الجماعة داهمت منزله واعتقلته بطريقة تعسفية، ضمن ما يبدو أنه استهداف منظم لشخصيات حزبية واجتماعية فاعلة خارج الأطر التي تسيطر عليها الجماعة، مؤكدة أن اعتقال الصبري يأتي في سياق تصعيد واضح ضد الرموز المحلية ذات الحضور المجتمعي، في محاولة لإفراغ المشهد العام من أي أصوات منافسة أو مستقلة. أما في مديرية مذيخرة، فقد نفذت جماعة الحوثي حملة اعتقال تعسفية طالت الأستاذين "حميد الزمر"، و "محمد عبده المغربي"، وهما من الكوادر التربوية والاجتماعية المعروفة في المنطقة، وتم اقتيادهما إلى جهة مجهولة دون أي إجراءات قضائية معلنة. 

وبحسب سكان محليون فإن عملية الاعتقال تمت بطريقة فجّة، تعكس استخفاف الجماعة بأبسط القواعد القانونية والحقوقية، حيث تمت المداهمات بشكل يرهب أسر المعتقلين وأطفالهم. انتهاكات واسعة كما وثق حقوقيون اعتقال عدد من المواطنين في مناطق متفرقة من محافظة إب، أبرزهم "يزيد طه مربوش"، "عبدالعليم عبدالاله"، "ياسر الرحامي"، "طلال سلام"، "نبيل اليوسفي"، و "سعيد عبدالله العدار"، حيث تتنوع خلفيات هؤلاء المعتقلين بين شخصيات تربوية، ونشطاء مجتمعيين، ووجهاء محليين، ما يعكس توسّع حملة القمع لتشمل مختلف أطياف المجتمع. 

وتُظهر هذه الاعتقالات أن الجماعة لا تستهدف فقط الشخصيات البارزة سياسيًا، بل تطال كذلك الشخصيات ذات التأثير المجتمعي والمعروفة بنشاطها المدني أو الاجتماعي، في محاولة لتفكيك البنية المحلية وإسكات أي صوت قد يعبّر عن استياء أو معارضة ضمنية لتوجهات الجماعة. 

أما في مديرية حبيش، فقد شهدت المديرية حملة حوثية مركّزة استهدفت عددًا من التربويين بشكل مباشر، وشملت كلاً من "هاشم الدرقمي"، "سيلان النهمي"، "أمين الجيلاني"، "جميل المنحمي"، "عبد الواحد كرش"، و "أحمد حسين الشامي"، وجميعهم معروفون في أوساطهم المجتمعية بدورهم التربوي والخدمي. 

ومن بين أبرز المعتقلين في هذه الحملة، يبرز اسم الدكتور أحمد ياسين، الطبيب المعروف بسِمَته الهادئة ومكانته الاجتماعية الرفيعة، والذي يحظى باحترام واسع في أوساط المجتمع المحلي. 

وتشير المصادر إلى أن الطبيب أحمد ياسين اختفى منذ أكثر من أسبوع بعد استدعائه من قبل جماعة الحوثي، دون أي توضيح رسمي أو اتهام معلن؛ ورغم تلقي أسرته تطمينات أولية من عناصر الجماعة بأن "الإجراء روتيني" ولن يطول، إلا أن غيابه المستمر يزيد من المخاوف بشأن ظروف احتجازه وسلامته. 

كما وردت تقارير في الأيام الأخيرة، باعتقال 4 شخصيات أكاديمية واجتماعية مرموقة في المحافظة، هم الأستاذ "فيصل عبدالله الشويع"، الدكتور "صادق اليوسفي"، الأستاذ "محمد طاهر"، والدكتور "نبيل اليفرسي".

وتشير هذه الأسماء إلى أن الحملة امتدت لتطال الشخصيات المسالمة التي لم يُعرف عنها أي نشاط معادٍ أو مواجهة علنية مع الجماعة، فيما يبدو أنه سلوك وقائي يعكس هشاشة الثقة داخل سلطة تعيش على وقع القلق المستمر.

 

قمع ممنهج

منذ انقلابها المسلح في العام2014، اعتمدت جماعة الحوثي المدعومة من إيران سياسة ممنهجة تقوم على ترسيخ الحكم القسري عبر القبضة الأمنية، حيث سعت إلى فرض هيمنة كاملة على المجال العام من خلال تكميم الأفواه، وملاحقة المعارضين والمثقفين، واستهداف أي شخصية مجتمعية مستقلة أو ذات تأثير محلي خارج عن الولاء المطلق للجماعة. 

وتُعد الاعتقالات التعسفية، والمداهمات الليلية، واقتحام المنازل، والتصفية الجسدية، أدوات مركزية في هندسة سلطة الخوف داخل مناطق سيطرتها؛ فالجماعة لا تفرق بين معارض سياسي وناشط اجتماعي أو حتى شيخ دين أو داعية قرآني؛ بل ترى في كل شخصية لها تأثير في محيطها تهديدًا لبنيتها السلطوية، لذلك تعمد إلى كسر الهيبة المجتمعية لتلك الشخصيات إما باعتقالهم أو بتشويههم أو بتصفيتهم. 

وبحسب ناشطين يمنيين فإن انتهاكات وجرائم الحوثيين ليست ممارسات فردية، بل سياسة أمنية ممنهجة تهدف إلى تحطيم بنية المجتمع المدني وكياناته المحلية، وإرسال رسائل مباشرة بأن "لا أحد في مأمن". 

وأشاروا إلى أن هذه الممارسات تستند إلى منطق القوة والعقاب الجماعي، خاصة في المناطق التي تشهد حالة تذمر متزايدة من أداء الجماعة، سواء على مستوى الوضع الاقتصادي والمعيشي، أو على صعيد الفساد الإداري وتدهور الخدمات الأساسية. 

تناقض صريح تتغنى جماعة الحوثي بشعار "المسيرة القرآنية" وتدّعي أنها جاءت "لإصلاح الوضع ومحاربة الفساد"، وتزعم أن أولويات مشروعها هو نصرة المستضعفين والدفاع عن قيم الدين والعدل، إلا أن ممارسات الجماعة على الأرض من اقتحام البيوت، وتفجير المساجد، واعتقال العلماء، إلى تصفية من يعلّم القرآن تكشف تناقضًا صارخًا بين الشعار والفعل. 

ويُظهر الواقع أن جماعة الحوثي انزلقت إلى مستوى بالغ القمع، حيث تستخدم الشعارات الدينية كغطاء لإرهاب المجتمع، وتكميم الأصوات، وإخراس كل من لا يسير خلف مشروعها الطائفي، الأمر الذي يؤكد أن الجماعة لم تعد تحتمل وجود شخصيات محايدة، أو تحظى بثقة الناس، لأنها ترى فيها خطرًا رمزيًا على مشروعها القائم على الولاء المطلق والطاعة العمياء. 

يرى مراقبون أن الجريمة التي ارتُكبت بحق الشيخ "صالح حنتوس" وهو رجل لم يحمل سلاحًا، ولم ينخرط في أي معارضة سياسية، بل كرّس حياته لتعليم القرآن والإصلاح المجتمعي، تمثل لحظة انكشاف كامل لادعاءات جماعة الحوثي، وتُسقط ما يسمى بـ "المسيرة القرآنية" باعتبارها غطاءً دينيًا هشًا لمشروع طائفي عنيف، يواصل إزهاق أرواح اليمنيين. 

في حين يعتقد البعض أن سلوك الجماعة يعكس خشيتها المتصاعدة من تنامي الوعي المجتمعي، والغليان الشعبي الذي بدأ يتسع في ريمة وغيرها من المحافظات، ويعبّر عن نفسه بالرفض الصامت، والنقد المكتوم، والمقاومة المدنية المتنامية، ولذلك يتعامل الحوثيون مع كل نقطة ضوء باعتبارها تهديدًا وجوديًا لهم. 

ويؤكد البعض أن ما جرى للشيخ "حنتوس" لا يُعد حادثًا معزولًا، بل يأتي ضمن سلسلة ممنهجة من الانتهاكات التي دأبت جماعة الحوثي على ارتكابها بحق العلماء والدعاة والمربين والمصلحين، وتندرج هذه الممارسات ضمن سياسة متعمدة لتفريغ المجتمع من رموزه الأخلاقية والدينية، وشلّ أي حراك مستقل يمكن أن يشكل نواة لرفض شعبي متصاعد في وجه سلطتها القمعية. 

ويرى كثيرون أن جريمة اغتيال الشيخ "حنتوس" لم تكن فقط تصفية جسدية لشخصية دينية، بل كانت رسالة مرعبة إلى بقية أبناء القبائل والعلماء والمجتمع برمّته، من خلال طريقة التنفيذ التي بدأت بفرض حصار على المنزل بعشرات الأطقم العسكرية مرورًا بالقصف والمداهمة وانتهاءً بالتصفية الميدانية، ناهيك عن ترويع النساء والأطفال، وما تبع ذلك من ضغوطات على المشايخ لإصدار بيان تأييد، وهو ما يكشف أن الجماعة لا تكتفي بإسكات الصوت، بل تريد تشويه صورته، وإجبار المجتمع على تبنّي روايتها ولو بالإكراه.

ويؤكد اليمنيون أن تصفية الشيخ "حنتوس" ليست مجرد جريمة قتل، بل عرض استعراضي للعنف، ورسالة تهديد جماعي؛ لكن المفارقة أن هذه الجرائم، بدلًا من أن ترسخ الخوف، باتت توقظ وعي المجتمع، وتزيد من مشاعر النفور الجماعي من "مليشيا إرهابية" لا تتردد في سفك دماء الأبرياء لتثبيت سلطتها المهتزة.