في مدينة أرهقتها الحرب والحصار المفروضين عليها من قبل جماعة الحوثي الإرهابية منذ عقد من الزمن، يبرز ملف جرحى الجيش الوطني في تعز كأحد الملفات الإنسانية الأكثر إلحاحا، علاوة على أهمية إعادة الاعتبار للدماء التي بُذلت في سبيل الحفاظ على الشرعية اليمنية من المد الحوثي الطائفي.
هؤلاء الجرحى الذين ثبتوا في خطوط التماس بأجسادهم وبنادقهم وواجهوا آلة الموت الحوثية باستبسال، ينتهي بهم المطاف اليوم ضحية للإهمال الحكومي وما تسببت به الأزمات المتلاحقة من انهيار البنية التحتية للمؤسسات الطبية، في وقت هم فيه بأمسّ الحاجة إلى رعاية صحية مُتقدمة.
ومع كل محاولة لإعادة رسم المشهد السياسي في أعلى هرم السلطة الشرعية، يتوارى ملف الجرحى في الهامش وهو ما يعكس تجاهلا ضمنيا لتضحياتهم والتلبية الحقيقية لاحتياجاتهم المتصاعدة.
مبادرات محدودة
لم تحظَ اللجنة الطبية العسكرية بمحور تعز منذ تأسيسها، بأي ميزانية تشغيلية رسمية من وزارة الدفاع في الحكومة الشرعية أو حتى من قيادة المحور والسلطة المحلية بالمحافظة، الأمر الذي جعل عملها يعتمد على مبادرات محدودة ومصادر متقطعة لا تكفي حتى لتسيير الحد الأدنى من أنشطتها اليومية.
يقول مصدر مطلع في مالية محور تعز، إن الدخل الذي تعتمد عليه اللجنة جزئيا في إدارة ملف الجرحى يأتي عبر استقطاع مبلغ ألف ريال عن كل جندي عند صرف رواتب أفراد المحور.
ويصل المبلغ بحدود عشرين مليون ريال يُضاف إليه مبلغ مماثل كتأمين صحي للمرضى العسكريين يتم التبرع به من مرتبات زملائهم، ويُصرف جزء منه لدعم المستشفى العسكري كمساهمة تأمينية.
كما تحصل اللجنة على مبلغ خمسة وعشرين مليون ريال شهريًا من السلطة المحلية في المحافظة يُخصم منه 7 % كضرائب، فيما بدأت مؤخراً مبادرة لدعم اللجنة بمبلغ يتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر مليون ريال من إيرادات مصلحة الهجرة والجوازات، وذلك نتيجة جهود ومتابعات حثيثة. بحسب المصدر.
وفي حديثه لـ"المجهر" أوضح المصدر أن هذه الإيرادات تضاف إلى مبالغ يتم توفيرها بصورة طارئة وغير منتظمة من قبل قيادة المحور وجهات أخرى، إلا أنها لا تتجاوز عشرين مليون ريال شهريًا.
وفي المجمل فإن كل ما تحصل عليه اللجنة لا يتعدى ثمانون مليون ريال شهريًا، بينما تقدر الاحتياجات الحقيقية بـ "مئتين وتسعين مليون ريال" لتغطية تكاليف العلاج داخل البلاد وخارجها، بما يشمل الجرحى القدامى والحالات المستجدة.
وتحتاج صيدلية اللجنة الطبية فقط إلى أكثر من ثلاثة وستين مليون ريال شهريًا لتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية، بحسب المصدر. ما يجعل اللجنة في حالة عجز دائم ويضعف قدرتها على أداء دورها.
احتياجات مضاعفة
يُقدر عدد جرحى الجيش الوطني في تعز منذ بداية الحرب بأكثر من 18 ألف جريح، منهم أربعة آلاف حالة يعانون من إعاقات دائمة تتنوع بين الشاملة والنصفية والجزئية، فيما يزيد عدد الحالات النشطة التي تتابعها اللجنة الطبية عن خمسة آلاف وخمسمئة حالة تتفاوت إصاباتهم ما بين المتوسطة والبليغة.
ويكشف مصدر مطلع في رابطة الجرحى أن نحو 150 جريحًا في حالة حرجة يحتاجون للسفر العاجل إلى الخارج لتلقي العلاج، خصوصًا ممن يعانون من إصابات في الدماغ والعمود الفقري والعيون.
ويؤكد المصدر في حديثه لـ"المجهر" أن تكلفة علاج كل حالة منهم لا تقل تكلفتها عن عشرة آلاف دولار، مضيفاً أن بعض الحالات تصل تكاليف علاجها إلى خمسة عشر ألفًا، وهو ما يفوق الإمكانيات المالية التي يمكن توفيرها.
يُشار إلى أن عملية إرسال الجرحى للخارج تمر بسلسلة من الإجراءات تبدأ بالحصول على تقرير طبي من مختص وعرض الحالة على اللجنة الفنية التابعة للجنة الطبية، ومن ثم مقابلة الجريح للجنة القرارات التابعة لرئاسة الوزراء في مستشفى الثورة، وإذا أقرت اللجنة احتياجه للعلاج في الخارج يتم إصدار توصية رسمية بالسفر.
أما على مستوى العلاج داخل تعز، ذكر المصدر أن أكثر من 2000 حالة جراحية لا تزال تنتظر منذ سنوات إجراء عمليات تخصصية، في وقت تتوزع فيه خدمات الرعاية بين مستشفيات محدودة القدرات لا تتوفر فيها الإمكانيات المطلوبة لتقديم الخدمات الطبية المطلوبة أو الرعاية التأهيلية المتخصصة.
إنجازات متواضعة
رغم كل ما سبق، إلا أن اللجنة الطبية أظهرت بعض الفاعلية خلال النصف الأول من العام الجاري، إذ تم إرسال 44 جريحًا للعلاج في جمهورية مصر عبر التنسيق مع رئاسة الجمهورية، و12 آخرين إلى مصر والهند بجهود محلية. حسب مصدر مسؤول في اللجنة.
وعلى المستوى المحلي، يوضح المصدر ذاته أن اللجنة استقبلت 130 حالة طارئة، ونفذت أكثر من 250 عملية جراحية في تخصصات مختلفة، إلى جانب 80 عملية تجميلية خاصة بالحالات المشلولة أو المتضررة.
كما قدمت اللجنة أكثر من (5760) جلسة علاج طبيعي، ودعمت 10 حالات نفسيًا، ووفرت لقاحات ضد لدغات الأفاعي والعقارب لـ 60 حالة، وكذلك لقاحات ما بعد استئصال الطحال لثلاث حالات، وتم تركيب أطراف صناعية لـ 10 جرحى، وسماعات طبية لـ 5 آخرين.
وفي مجال التشخيص، يشير المصدر الطبي خلال حديثه لـ"المجهر" إلى أن اللجنة أجرت 550 فحصًا مخبريًا، و600 كشاقة سينية وديجيتال، و250 حالة تصوير بالأشعة المحورية والرنين المغناطيسي.
وكل ذلك تمَّ بموارد محدودة من دون أي غطاء رسمي أو اعتماد مالي واضح من قبل الجهات الحكومية، وبفريق يقدَّم جهود ميدانية حثيثة في ظل ضغط كبير تتعرض له اللجنة الطبية نتيجة الحالات غير المتوقفة بفعل الحرب المستمرة.
عقبات إدارية
تواجه اللجنة الطبية صعوبات إدارية بالغة لعدم تلقيها استجابة من الجهات الحكومية المعنية، فرغم رفع مذكرات متكررة إلى وزارة الدفاع ورئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية للمطالبة باعتماد ميزانية تشغيلية رسمية وتسهيل إجراءات علاج الجرحى، إلا أن تلك المطالب قوبلت بالصمت والتجاهل.
إلى جانب ذلك، يصطدم المسار التشغيلي لعمل اللجنة مع ضرورة وجود مراكز طبية متخصصة داخل تعز، حيث يشير مصدر طبي في اللجنة إلى عدم توفر مركز واحد على الأقل متخصص في جراحة الأعصاب أو العمود الفقري أو العيون.
كما أن البنية التحتية في المستشفيات والمرافق الطبية الحكومية متردية رغم وفرة الكفاءات المحلية، الأمر الذي يجبر اللجنة على إحالة عدد كبير من الحالات إلى مستشفيات خاصة مثل مستشفى الروضة والصفوة ومستشفيات أُخرى، بأسعار مرتفعة تضاف كأعباء ثقيلة تفوق طاقتها.
وفي حديثه لـ"المجهر" يحذر المصدر من أن غياب رؤية وطنية شاملة لمعالجة ملف الجرحى من شأنه أن يتسبب في استنزاف الموارد وتراكم الحالات الطبية لجرحى الحرب مما يؤدي إلى تضخيم العبء المالي على الدولة، خاصة في ظل اللجوء المكثف للعلاج الخارجي بسبب غياب البنية التحتية الطبية في المناطق المحررة.
نداء مفتوح
وجهت اللجنة الطبية بمحور تعز عبر "المجهر" نداءً مفتوحًا إلى رئيس مجلس القيادة الرئاسي ورئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئاسة هيئة الأركان العامة، مطالبة بالتدخل العاجل لإنقاذ الجرحى من مصير التهميش والانهيار الصحي، عبر اعتماد ميزانية تشغيلية شهرية تغطي الحد الأدنى من الاحتياجات، ودعم اللجنة طبيًا وماليًا.
ونقل المصدر المسؤول دعوة اللجنة لقيادة الشرعية بتشكيل هيئة وطنية لمعالجة ورعاية الجرحى وأسر الشهداء المتضررين من الحرب، واعتمادها كمؤسسة مركزية تتولى التنسيق بين الجهات المعنية ووضع الخطط الاستراتيجية للملف على مستوى البلاد.
واقترح اعتماد رؤية متكاملة بالشراكة مع وزارتي الصحة والمالية، تتضمن الحد من السفر للخارج وقصره على الحالات الطارئة، والعمل على إنشاء مراكز طبية متخصصة داخل تعز تشمل مراكز طبية لجراحة المخ والأعصاب، وجراحة العمود الفقري، والعلاج الطبيعي والتأهيلي، وكذلك لزراعة القرنية وجراحة العيون، مؤكدا أن هذه المراكز كفيلة بتقليل الإنفاق الخارجي وتوطين الخدمة الصحية داخليًا.
وعموماً، يُعد ملف جرحى محور تعز اختباراً حقيقاً لالتزام الحكومة تجاه من ضحوا بدمائهم دفاعًا عن شرعيتها، كونهم سقطوا وهم يدافعون عن مشروع وطني هدفه حماية سلطة الدولة من سطوة وبطش الانقلاب الحوثي.
ولذا فإن استمرار تجاهل هذا الملف يعكس فشل الحكومة الشرعية في الحفاظ على منظومة القيم التي تميزها عن جماعة الحوثي الانقلابية فيما يتعلق ببناء واستعادة مؤسسات الدولة. بحسب مراقبين.
وفي حال لم تتحرك الحكومة اليوم لاحتواء ملف الجرحى، فإن الغد لن يحمل لها إلا مزيدًا من التآكل في شرعيتها ومصداقيتها أمام فئة من السكان لا يطالبون بأكثر من حقهم في توفير الدواء والرعاية الصحية اللازمة كواحدة من أهم سُبل العيش الآمنة والكريمة.
تابع المجهر نت على X