خوف حوثي من النخب.. ما وراء التصعيد الأمني ضد الأكاديميين في إب؟ (تقرير خاص)

خوف حوثي من النخب.. ما وراء التصعيد الأمني ضد الأكاديميين في إب؟ (تقرير خاص)

في محافظة إب الواقعة وسط اليمن، تعيش مكونات المجتمع المدني واحدة من أشد موجات القمع الحوثي منذ سنوات، مع تصاعد حملة اختطافات ممنهجة طالت عشرات الأكاديميين والتربويين والشخصيات الاجتماعية، في مؤشر خطير على توجّه الجماعة لتفكيك النسيج المجتمعي وضرب مراكز الوعي المجتمعي.

وعلى امتداد أسابيع، تحوّلت المحافظة إلى مسرح لانتهاكات صادمة شملت اختطافات، مداهمات ليلية، سجون سرية، وابتزازٌ منظم، ضمن حملة أمنية شديدة التأثير تُدار بأدوات الخوف والتعذيب والسطو على الحريات، في ظل غياب أي ضمانات قانونية أو إنسانية.

ويرى مراقبون أن التصعيد في إب ليس منعزلًا عن سياق أوسع من التوجهات الحوثية لفرض هندسة أمنية واجتماعية جديدة، تقوم على تكميم الأفواه وإقصاء الكفاءات واستبدالها بعناصر موالية، بما يرسخ واقعًا قمعيًا قائمًا على الولاء الأيديولوجي لا الكفاءة أو المهنية.

 

استهداف النُخب

 

خلال الأيام القليلة الماضية، شنت الجماعة المدعومة من إيران حملة اختطافات طالت أكثر من 15 شخصية، بينهم أكاديميون وموظفون حكوميون وناشطون، في سياق يؤكد تصعيد أدوات القمع ضد الفئات المتعلمة والنشطة مجتمعيًا.

وفي أحدث حالة لموجة الانتهاكات، داهمت عناصر حوثية يرافقها مسلحون وعناصر من "الزينبيات"، منزل الأكاديمي عبدالحميد المصباحي في مدينة إب، حيث عمدوا إلى تفتيش المنزل بطريقة دقيقة ومصادرة هواتف وأجهزة إلكترونية، وسط حالة من الرعب أصابت النساء والأطفال.

واقتادت العناصر الحوثية امرأتين من المنزل عقب تفتيشه إلى شقة أخرى تابعة للمصباحي بحثًا عنه وعن مقتنياته الأخرى، رغم كونه خارج المحافظة منذ بدء الحملة. وفقا لمصادر محلية.

كما اختطفت الجماعة معلماً يدعى وليد العلايه في مديرية السدة بمحافظة إب، وقام مدير إدارة التربية والتعليم فواز غليس، في نفس المديرية باستدعاء المعلمين يحيى صالح ناجي الدجنة وسنان عبده منصر الغراسي وتسليمهما لمسلحين تابعين للجماعة، حيث نقلا إلى مبنى الأمن السياسي في إب.

وشملت الاعتقالات كذلك شخصيات بارزة، منها الدكتور محمد نعمان الخولاني، مدير إدارة مركز الإقراء والإجازة بالسند في الجمعية الخيرية لتعليم القرآن الكريم، والباحث في مرحلة الدكتوراه، إضافة إلى موظفي مؤسسات مصرفية وتعليمية، من بينهم نشوان الحاج (بنك سبأ)، وحمود المقبلي (جامعة العلوم والتكنولوجيا)، وعبدالواحد آل قاسم (الخدمة المدنية)، والدكتور محمد الشارح (جامعة إب).

كما اختطف الجماعة الرئيس السابق لجمعية الأقصى محمد مارش السلمي، بالرغم من حالته الصحية الحرجة، إلى جانب المواطن فضل العمامي الذي اختطف من داخل متجر يعمل فيه محاسباً.

وتتسق هذه الحملة مع نمط قمعي تتبعه الجماعة في مناطق سيطرتها، حيث تستهدف بشكل مباشر الأكاديميين وحَفَظَة القرآن وعدد من المهنيين، في محاولة لإحكام السيطرة الأمنية وتفريغ المجتمع من أي صوت مستقل أو مؤثر.

 

ابتزاز متواصل

 

يعيش سكان محافظة إب اليوم، في حالة من الفزع والقلق بفعل الحملة القمعية الواسعة التي تنفذها جماعة الحوثي منذ عدة أشهر، والتي تحولت إلى أداة ابتزاز ممنهجة للنخب الأكاديمية والدينية التي يتم اختطافها.

ويؤكد مصدر خاص في محافظة إب أن حملات الاختطافات الجارية في المحافظة تستهدف الكفاءات تحت غطاء أمني، يتم من خلاله ابتزاز أسرهم ماليًا مقابل الحصول على معلومات عن أماكن احتجازهم أو الإفراج عنهم.

وأضاف المصدر في حديث لـ"المجهر" - مفضلا عدم ذكر اسمه لدواعي أمنية - أن السلطات الأمنية للحوثيين باتت تعمد إلى تغيير أسماء المختطفين، ومنحهم كُنى غامضة كـ"أبو عبيدة" أو "أبو مريم" لتضليل أسرهم ومنع أي محاولة للبحث عنهم أو تتبع مصيرهم، ما يزيد من معاناتهم ويصعّب الوصول إليهم.

وبلغ عدد المختطفين منذ بدء الحملة نحو 75 شخصًا من مختلف المديريات، بما في ذلك مديريات العدين، السدة، حبيش، المشنة، والظهار، ولم يُفرج حتى الآن سوى عن 3 إلى 4 من إجمالي المختطفين. بحسب المصدر.

وتبدأ عملية الاحتجاز غالبًا في البحث الجنائي، بحسب المصدر، ثم يتم نقل المعتقلين إلى جهازي الأمن السياسي والأمن المخابرات، حيث يُحتجزون في أماكن سرية دون إشعار ذويهم.

 

ضغوط مباشرة

 

تمرُّ أسر المختطفين بظروف إنسانية في غاية السوء، إذ تتعرض لضغوط شديدة وسط خوف حقيقي من قيام الحوثيين بتعذيب ذويهم أو إجبارهم على توقيع اعترافات ملفقة، ويتزايد القلق من استغلال هذه الاعترافات لاحقًا لتبرير محاكمات صورية أو توجيه اتهامات جاهزة بحق أبرياء.

وأكد إبراهيم عسقين مستشار محافظ إب لشؤون الإعلام، أن الوضع الإنساني متدهور للغاية، مبيناً أن بعض المختطفين ما يزالون في قبضة الأمن السياسي بالمحافظة فيما نُقل آخرون إلى صنعاء.

وفي حديثه لـ"المجهر" يضيف عسقين، أن الحوثيين يمارسون ضغوطًا مباشرة على أسر المختطفين لمنعهم من التواصل مع وسائل الإعلام أو الجهات الحقوقية، حيث تخشى الجماعة من كشف حجم انتهاكاتها الإنسانية في إب، كونها تدرك افتقارها لأي حاضنة مجتمعية حقيقية هناك.

ويشير إلى أن حملة الاختطافات الأخيرة ركزت بشكل لافت على قيادات في حزب الإصلاح من الصفين الأول والثاني، في مؤشر على رغبة الجماعة بتفكيك البنية السياسية والتنظيمية التي يعتقد الحوثيون أنها تقف عائقاً أمام هيمنتهم المطلقة على المحافظة.

 

استعراض قمعي

 

يرى سياسيون وناشطون من أبناء إب أن الحملة القمعية التي تنفذها جماعة الحوثي لا تستند إلى دوافع سياسية أو أمنية واضحة، وإنما تعكس حالة استعراضية هدفها تثبيت السيطرة على المحافظة وبث الرعب في الأوساط المجتمعية.

في هذا السياق، أوضح الصحفي والناشط أحمد هزاع، أن ما يجري من اختطافات لعشرات الأكاديميين وحفظة القرآن والأطباء يتم خارج بعيداً عن السياق السياسي والأمني مباشر، مؤكداً بأنه يأتي في إطار سلوك همجي هدفه الإخضاع لا أكثر.

وفي حديثه لـ"المجهر" يعتقد هزاع، أن الجماعة تسعى من خلال هذا التصعيد إلى إثبات حضورها الميداني واستعادة هيجانها الأمني بعد فترة من التراجع النسبي في بعض المحاور الإقليمية، خاصة في ضوء تطورات الأوضاع الإقليمية في إيران ولبنان وسوريا.

وأضاف: "ميليشيا الحوثي تحاول عبر هذه الحملة الظهور بأن يدها ما زالت طويلة، وأنها قادرة على فرض البطش داخل مناطق نفوذها، متعمدة استهداف أكثر الفئات أهمية في المجتمع، كالأكاديميين وخطباء المساجد ورؤساء الجمعيات الخيرية".

ويشير مراقبون إلى أن الحملة الراهنة تأتي بالتوازي مع جهود متعمدة لتفريغ المؤسسات التعليمية والدينية من الكفاءات المستقلة، تمهيدًا لإحلال عناصر موالية للجماعة سواء في المدارس أو الجامعات أو حتى في المساجد.

وفي هذا الجانب يقول هزاع، إن جماعة الحوثي تتعامل مع النخبة المثقفة كخطر بنيوي يهدد مشروعها العقائدي ولهذا تسعى إلى ترهيبهم وإسكاتهم، معتبرة أن من يجرؤ على انتقادها يمثل تهديدًا وجوديًا لا بد من تحييده.

ورجّح أن الحملة الحالية تأتي كثمرة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية للحوثيين، لا سيما بعد تعيين علي حسين الحوثي – نجل مؤسس الجماعة – رئيسًا لجهاز استخبارات الشرطة ومكافحة الإرهاب.

وأشار الصحفي أحمد هزاع إلى أن هذه الاختطافات المكثفة تمثل رسالة لإثبات حضور هذا الجهاز المستحدث، الذي يخضع لإشراف مباشر من زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، ويعمل على ترسيخ قبضة أمنية أكثر بطشًا تحت مبرر مكافحة "العدو الداخلي".

 

إخضاع المجتمع

 

في سياق الانتهاكات القانونية والتدهور الحقوقي المتسارع الذي تشهده محافظة إب، أكد المحامي والناشط الحقوقي عبدالرحمن برمان أن حالات القمع الحوثية في إب تمثل مسارًا طويلًا من الانتهاكات وليست طارئة، ما يجعل منها واحدة من أكثر المحافظات اليمنية تضررًا من ممارسات الجماعة.

وذكر برمان في حديثه ل "المجهر" أن المركز الأمريكي للعدالة وثّق منذ مطلع يناير وحتى يوليو الجاري 217 حالة اعتقال، جميعها استهدفت شخصيات تعليمية، أكاديمية، طبية، قيادات مجتمعية، ومدرّسي قرآن، موضحاً أن التصعيد بلغ ذروته في الأسابيع القليلة الماضية، حيث وثق المركز تنفيذ أكثر من 90 عملية اختطاف خلال فترة لا تتجاوز أربعة أسابيع.

وتركز جماعة الحوثي بشكل خاص على استهداف معلمي القرآن الكريم، والعاملين في الجمعيات الخيرية والإغاثية، في محاولة لتفكيك البيئة الحاضنة لأي نشاط توعوي أو مجتمعي مستقل، معتبرًا أن هذه الفئات تمثل "الخطر التنويري" الأكبر على مشروع الجماعة العقائدي. بحسب برمان.

كما أشار برمان إلى أن الانتهاكات لم تقتصر على الحرية الشخصية، وشملت الحق في الحياة والكرامة وحرمة الممتلكات بما في ذلك ممارسة الابتزاز ونهب الأموال وتفجير المنازل ومصادرة الممتلكات الخاصة، في إطار ممنهج يهدف إلى إخضاع المجتمع بكل فئاته.

ونوّه إلى أن استهداف التجار يدخل ضمن استراتيجية اقتصادية تسعى الجماعة من خلالها إلى تدمير ما تبقى من اقتصاد مستقل، وتحويل مصادر الدخل والثروة إلى يد أتباعها، لضمان السيطرة على أقوات الناس ومصائرهم.

ويخلص برمان إلى أن جوهر هذا التصعيد يعود إلى خوف الجماعة من الوعي المجتمعي المتولد من التعليم والفكر المستقل، معتبرًا أن التعليم في نظر الحوثيين يشكل "خطرًا وجوديًا" يهدد ديمومة سلطتهم، ولهذا فإنهم يلجؤون إلى سلوك مستمد من النموذج الإيراني القائم على القمع والبطش والإرهاب النفسي، من أجل تصفية المعارضين وتخويف المجتمع بأسره.

 

معركة ضد الوعي

 

في سياق التصعيد القمعي الذي تشهده محافظة إب، تبرز دوافع عميقة ترتبط بطبيعة المشروع الحوثي نفسه، الذي يرى في الوعي المجتمعي خطرًا وجوديًا على بُنيته العقائدية والأمنية.

يقول الصحفي والكاتب اليمني همدان العليي، إن الجماعات الإرهابية – كجماعة الحوثي – قد تغفر للجندي الذي يقاتلها في الجبهات، ولكنها لا تتسامح مع المثقف الذي يواجهها بالفكرة والكلمة.

وأوضح العليي في حديثه لـ"المجهر" أن ما تشهده محافظة إب منذ أسابيع يعكس هذه الحقيقة بوضوح، حيث تستهدف جماعة الحوثي الأكاديميين والعلماء والمثقفين والصحفيين والمعلمين والناشطين، وتقتحم منازلهم وتخفيهم قسرًا بينما تُطلق الوعود بالسلام للجنود في المناطق المحررة.

ويضيف أن الخوف الحوثي ينبع من الفكر القادر على هدم أركان خطابهم العنصري قبل الخوف من السلاح، مؤكداً بأن "المثقف يصنع الوعي، ويوجه المعركة نحو الفكرة التي تنتصر على الرصاصة".

ولفت العليي إلى أن الجماعات الاستبدادية دائمًا ما تبدأ حملاتها باستهداف المفكرين والمعلّمين وحرق الكتب، لأنها تدرك أن الكلمة الصادقة تتحول إلى مقاومة ثم إلى ثورة.

ويختم العليي حديثه برسالة تحدٍ، مؤكداً بأن الحوثيين لن يفلحوا في محاربة الوعي وإيقاف المعركة التنويرية، وسيكون مصيرهم كمصير أسلافهم في عصر لم يعد فيه قيود على الكلمة أو حدود للفكرة.

 

مشروع قمعي

 

وثّقت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات اختطاف جماعة الحوثي لـ83 مدنيًا في محافظة إب بين مارس ويوليو 2025، بينهم أكاديميون وتربويون وطلاب وأطفال وشخصيات اجتماعية، ضمن حملة قمع ممنهجة تستهدف المجتمع المدني.

شمل التقرير 9 حالات إخفاء قسري و342 مداهمة لمنازل، إضافة إلى 18 واقعة نهب، جميعها تمت دون مسوغات قانونية. وأشار إلى تصاعد خطير تمثّل في استحداث 12 سجنًا سريًا تُمارَس فيها انتهاكات جسيمة، بينها التعذيب وانتزاع الاعترافات بالإكراه.

وأكدت الشبكة أن الحوثيين يستخدمون الاعتقال والترهيب كوسيلة لإسكات المجتمع، داعية إلى تحرّك حقوقي وإعلامي واسع للضغط من أجل إطلاق سراح المختطفين ووقف الانتهاكات المتزايدة التي تهدد الحياة المدنية في إب.

وتكشف الوقائع المتلاحقة في إب عن سياسة قمعية تتجاوز البُعد الأمني إلى مشروع طويل الأمد لترويض المجتمع وإعادة تشكيله تحت سطوة فكر أحادي ومسلّح، حيث مثَّلت المحافظة مرآة لكشفت مشروع الجماعة في أبشع صوره.
ومع تفاقم الانتهاكات وغياب أي أفق للمساءلة، تتضاعف الحاجة لتحرّك حقوقي وإعلامي يسلّط الضوء على معاناة المختطفين، ويضع ملف إب في واجهة الاهتمام الدولي كرمز للمأساة الإنسانية والمجتمعية المفروضة بقوة السلاح.