تحقيق خاص
منذ البدايات الأولى للحرب في اليمن، سعى الحوثيون لتحويل محافظة تعز إلى ضفتين، من خلال فصل المدينة عن محيطها العام؛ جاءت هذه الخطوة بعدما عجزت هذه الجماعة في السيطرة عليها، فلجأت إلى إغلاق الطرق الرئيسية والفرعية التي تربط المدينة بمنطقة الحوبان - مركز إيرادات المحافظة .
تلك الخطوة التي أقدمت عليها جماعة الحوثي، كي تنفرد بإدارة المؤسسات والقطاعات الإنتاجية والموارد التجارية والإيرادات الضريبية والجمركية التي تصل يوميًا إلى مئات الملايين يجري تحصيلها عن طريق عدد من المندوبين والوكلاء، جميعهم يعملون ضمن هيكل تنظيمي يندرج تحت سلطة صنعاء المركزية .
"المجهر" سلط الضوء على إيرادات تعز "الحوبان"، التي تذهب إلى جيوب الحوثي، كما تكشف سلسلة من الاسماء والشخصيات القيادية التي تعمل على تحصيل الموارد لصالح الحوثيين، وكيف يتخذ الطرف الأخير من المدينة المحاصرة جسرًا للعبور إلى المال الحكومي، الأمر الذي يفسر تمسك ميليشيا الحوثي بتعز، ورفضهم المستمر لفكرة رفع الحصار عن المدينة .
في هذا التحقيق حاول فريق الإعداد البحث والتقصي عن اقتصاد الحوثي في تعز، وما هي المؤسسات والهيئات الإيرادية في منطقة الحوبان التي تمثل أحد المصادر الرئيسية لحرب الحوثي على المدينة واليمن أجمع .
سلطة مالية مركزية
تفيد المعلومات التي توصلنا إليها بأن المدعو "رشيد أبو لحوم" ، والذي يعمل مسؤولًا للشؤون الاقتصادية ووزيرًا للمالية في سلطة الحوثي بصنعاء، يشرف بشكل مباشر على تحصيل ضرائب وجمارك تعز .
إذ يعتبر أبو لحوم سلطة عليا في المنطقة الصناعية - الحوبان، من خلال نافذون ووكلاء في الميدان، بالإضافة لرئيس مصلحة الضرائب، "علي جبران الشماحي" الذي بدوره يشرف على توريد الأموال بشكل مركزي إلى صنعاء، بمساعدة كمال الحروي المسؤول الميداني عن تحصيل الموارد الضريبية .
ويقف المدعو فضل أبو طالب، القيادي البارز في جماعة الحوثي والمرتبط مباشرة بالحرس الثوري الإيراني، خلف تحصيل ضريبة القات والأراضي والعقارات من خلال نافذون له في تعز - الحوبان .
صحيفة تكشف عن تعديلات مرتقبة في الحكومة اليمنية تشمل رئاستها وعدد من الوزارات
كما يدير المدعو "محمد المحفدي" منفذ جمرك الراهدة، والذي يعد أهم شريان يغذي حرب الحوثيين، والمستحدث عام 2019م، فيما يعمل "نبيل القصار" مسؤولًا للوحدة التنفيذية الخاصة بكبار المكلفين ورؤوس الأموال.. وهي وحدة مرتبطة مركزيا بالجهاز المالي التابع للجماعة في صنعاء .
من خلال هذه الشبكة المنظمة والمتسلسلة يستنزف الحوثيون موارد تعز المنطقة الصناعية والتجارية "الحوبان"، ضمن مسلسل طويل من النهب والعبث بإيرادات المحافظة .
جمرك الراهدة "منفذ المال"
ثمة منابع إيرادية يعتمد عليها الحوثيون في مناطق سيطرتهم بمحافظة تعز، والتي تشكل شريانًا ماليًا لتغذية الجبهات على أطراف المدينة.. معظم هذه المنافذ تذهب مباشرة إلى الخزنة المركزية للحوثيين، فيما البعض الآخر جرى استحداثها من قبل الجماعة بهدف زيادة الموارد ومضاعفة عملية التحصيل المالي .
منفذ جمرك الراهدة، يقع في الجهة الجنوبية من محافظة تعز، ويعد واحدًا من أهم المنافذ التي استحدثتها الميليشيا خلال العام 2019م،، من خلاله تمر مئات الشاحنات المحملة بالسلع والبضائع القادمة من محافظة عدن عبر عدد من الطرق الترابية.. وهناك يشكو سائقو الشاحنات من أساليب النهب والعبث .
نشوان سعيد، سائق شاحنة يؤكد ل "المجهر" إن الحوثيين يفرضون مبالغاً مالية على شاحنات النقل بدون مبرر، "كل شاحنة تمر من منفذ الراهدة تدفع مبلغ معين.. نحن مجبرون على الدفع، أو يتم احتجازنا في سجون الصالح" ، ويضيف: "جميع نقاط الحوثي تأخذ من الشاحنات والسيارات مبالغ كبيرة يوميًا".
لا تكاد تمر يوم إلا ويتم تسجيل العديد من الانتهاكات بحق المدنيين وسائقي المركبات، نتيجة ما يفرضه الحوثيون من إتاوات وجبايات باهظة على شاحنات نقل البضائع والسلع الغذائية، دون تقييم حقيقي لحجم السلع والبضائع الواصلة عبر المنفذ .
يوضح الرجل: "في منفذ الراهدة لا يوجد قانون للدفع، فقط ينظر لنوعية السلعة أو البضاعة، ويقرر المبلغ، جمارك وضرائب بشكل عشوائي، وبمبالغ تتراوح ما بين ربع الى نصف مليون على كل شاحنة وبشكل يومي" .
جمرك الراهدة، بحسب كثيرين يسمى منفذ المال، نظرًا لما يتعرض له سائقي شاحنات النقل التجارية من ابتزاز بمبرر الجمركة ودفع الضريبة، ناهيك عما يقوم به الحوثيون من أساليب نهب ومصادرة للعملة الجديدة، نزولًا عن قرار الميليشيا الذي يمنع تداول العملة الخاصة بالبنك المركزي التابع للحكومة الشرعية.
جباية الذهب الأسود "النفط"
تتمثل أهمية منفذ الراهدة، في كونه همزة وصل لعبور شاحنات المشتقات النفطية إلى مناطق ميليشيا الحوثي التي تأتي من المحافظات المحررة، حيث يجني هؤلاء أموالًا طائلة من عائدات بيع الوقود والجبايات غير القانونية على حاويات النفط المستوردة عبر ميناء الحديدة؛ وفقًا لتقرير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الدولي .
كما أفاد التقرير بأن حجم إمدادات الوقود عن طريق البر إلى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيين بين أبريل ومايو من العام الماضي تصل إلى نحو 10 ألف طن يوميًا، وهو ما يمثل نسبة 65% من الوقود المستورد، فيما بلغ بين يناير ومارس من العام نفسه ما يزيد عن 6000 طنًا، مما يدل على وجود اتجاه تصاعدي .
وبهذا الشأن يذكر أحد المستوردين ل "المجهر" بأن الحوثيين بدأوا منذ فبراير 2021، بفرض مبلغ 37 ريالًا يمنيًا مقابل لتر واحد من المشتقات النفطية، حيث تعتبر جبايات غير قانونية كرسوم جمركية إضافية، ما يعني أن هذه الميليشيا تتحصل ما يقارب 370 مليون يوميًا من جبايات الوقود غير القانونية، وبمعدل يصل سنويًا إلى 133 مليار ومائتا مليون من العملة القديمة .
"الحوبان" المدينة الصناعية والتجارية
يومًا بعد يوم تُضاعِف ميليشيا الحوثي حجم مواردها وعوائدها المالية من خلال انتهاج جملة من الممارسات غير القانونية، والمتمثلة بالازدواج الضريبي ورفع رسوم تعرفة الضرائب والجمارك، الأمر الذي ينعكس سلبًا على حياة ملايين المدنيين .
ولأن الحوبان منطقة صناعية فقد سعت هذه الجماعة إلى الهيمنة على العديد من المؤسسات الاقتصادية، والمصانع المنتجة، وذلك من أجل مضاعفة الإيرادات وزيادة مبالغ الجبايات،، حيث تعد هذه الممارسات غير قانونية فضلا عن أنها تدخل ضمن أساليب النهب باسم السلطة الحاكمة.
يقول "ت. م" عامل في مصلحة ضرائب الحوبان إن مستوى تحصيل الضرائب من النشاط التجاري والصناعي ارتفع بصورة مضاعفة خلال سيطرة الحوثيين، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع إجمالي الإيرادات الضريبية بشكل كبير مقارنة بسنوات ما قبل الحرب .
إقطاعية “الحوبان”.. بالأسماء والمعلومات الهيكل العسكري والأمني لدولة الحوثي في تعز
وأشار في حديثه ل "المجهر" بأن ميليشيا الحوثي تتحصل من المصانع وكبار المكلفين والتجار ما يقارب 10 مليار ريال شهريًا بما يزيد عن 120 مليار من العملة القديمة .
يبدو أن الحوثيين يتمسكون بهذه المدينة الصناعية والتجارية ذات الموارد الكبيرة، بل ويقاتلون من أجل استمرار تدفق مئات الملايين يوميًا إلى خزينة صنعاء وصعدة .
تشير المصادر إلى أن الميليشيا الحوثية تفرض على مصانع الحوبان منح مقاتليها كميات من المواد الغذائية كمخصص شهري بمبرر الحماية الأمنية .
يرى مراقبون بأن ميليشيا الحوثي تسيطر على النسبة الأكبر من النشاط الضريبي في محافظة تعز، إذ تشير التقديرات إلى أن الحوثيين يتحصلون ما يزيد عن 70% من إجمالي النشاطات الضريبية لمختلف مديريات المحافظة .
ضرائب وجبايات
يقدر خبراء اقتصاديين بأن إجمالي الإيرادات الضريبية فقط لمدينة تعز الخاضعة لسيطرة الشرعية خلال العام 2021، بنحو 11 مليار ريال.. هذه المبالغ وفقًا لسلطة مدينة تعز تُمثل 30% من إجمالي النشاط الضريبي بالمحافظة.. هكذا تبدو الأرقام مخيفة تبعًا لسيطرة الحوثيين على أكثر من نصف إيرادات تعز .
يتحدث مدير مكتب مالية تعز، محمد عبدالرحمن السامعي ل "المجهر" : ان "الحوثي يتحصل ما يقارب 70% من موارد محافظة تعز، لأنه يسيطر على منطقة حيوية وذات إيرادات، تتضمن نشاط صناعي وتجاري بشكل مستمر تقع ضمن نطاق سيطرة مليشيا الحوثي .
مشيراً أن الإيرادات تذهب إلى جيوب قيادات ومشرفي الحوثيين" ، ويستطرد الرجل: "موارد المدينة والمناطق التي تقع ضمن سلطة الشرعية لا تتجاوز 30% من إجمالي موارد المحافظة" .
وبحسب المعلومات فإن ميليشيا الحوثي تجني من إيرادات ضرائب تعز، ما يقارب 22 مليار ريال سنويًا، حيث تشمل الأنشطة التجارية الصغيرة دون إيرادات المصانع والشركات التجارية وكُبار المكلفين .
يُرجح السامعي سبب زيادة إيرادات الحوثيين إلى الأوعية الإيرادية التي يسيطرون عليها وتتمثل بضرائب القات والمصانع والمؤسسات والشركات .
موضحًا أن كثير من رؤوس الأموال يعملون تحت إشراف وسيطرة الحوثي.. مضيفا " ميليشيا الحوثي تجاوزت الأنظمة والقوانين واللوائح في عملية تحصيل الموارد والإيرادات، حيث يتم فرض رسوم خارج إطار القانون والأنظمة واللوائح النافذة .
إذ ان جباية الأموال ترفد جبهات الحوثي وتؤثر على القطاع الخاص في إطار سيطرة الميليشيا، كما تؤثر على السلطة المحلية من حيث قيامها بالخدمات الأساسية والأعمال التنموية في المديريات" .
مضاعفة جباية القات
ومن خلال عملية البحث تظهر تقديرات بحجم الأرقام والعوائد المالية التي تحققها الجماعة جراء سيطرتها على ضرائب القات .
حيث تفيد مصادر مطلعة بأن جبايات الحوثيين من القات وصلت خلال الفترة الأخيرة إلى نحو 20 مليون يوميًا، ما يعادل نحو 7 مليار ومائتا مليون ريال سنوياً من الطبعة القديمة .
بهذه الطريقة يقتطعون النصيب الأكبر من الإيرادات الضريبية للقات بمحافظة تعز بمبرر تواجد مزارع القات ضمن المناطق الواقعة تحت سيطرتهم..
الأمر ذاته ينطبق على الإيرادات الأخرى بما فيها العقارات والتي تعتبر إحدى أكبر بؤر فساد الحوثيين بتعز .
استنزاف تعز
على مدى ثمانية أعوام من سيطرة الحوثيون على موارد تعز وإيراداتها الضريبية والجمركية، فضلًا عن مضاعفتهم الجبايات وتحصيلهم مئات الملايين شهريًا، إلا أن المحافظة كانت ولا تزال بعيدة عن الاهتمام، وتفتقر لأبسط الخدمات العامة، وتنعدم فيها المشاريع التنموية .
كما زادت نسبة معاناة المدنيين، نتيجة انتشار الفقر، وتفشي البطالة، وقلة فرص العمل، ناهيك عن تنصل سلطة الحوثي من صرف رواتب الموظفين في القطاع الحكومي .
في مطلع أغسطس من العام 2022م الفائت، تحدث عضو ما يسمى المجلس السياسي للحوثيين سلطان السامعي، بنوع من الاستياء عن حجم الإيرادات الكبيرة التي تحققها جماعة الحوثي سنويًا من المناطق التي تقع تحت سيطرتها بتعز .
حيث أوضح بأن الحوثيين يتحصلون ما يزيد عن 250 مليار في العام الواحد، أي ما يعادل 400 مليون دولار، دون أن يكون هناك نفقات تخدم المواطنيين او تمنح الموظفين حقوقهم المنقطعة منذ زمن .
جبايات لا تتوقف
من جهته يقول نجم المريري، صحفي يمني، ان إيرادات منطقة الحوبان تذهب إلى الخزنة المركزية لدى الحوثيين، لكن ثمة ممارسات تجري بطرق غير مباشرة وجبايات من تحت طاولة السلطات المسؤولة قد تتجاوز الأرقام المعلنة، هذه المبالغ تورد إلى جيوب قادة حوثيين ومشرفين ميدانيين إضافة إلى العاملين عليها .
وبحسب المريري فإن ميليشيا الحوثي تستفيد من الموارد المالية في مناطق سيطرتها والإيرادات اليومية في دعم الجبهات وتوفير الإمكانيات للمقاتلين فضلًا عن منح العشرات من الحوثيين منازل ضخمة، وبناء شركات تجارية على مختلف الأصعدة لبعض الشخصيات المهمة تأمينًا لمصدر الدخل والسيطرة على سوق العمل .
هكذا يتحصل الحوثيون إيرادات تعز الضريبية وإيرادات الجمارك والعقارات بجانب تجارتهم بالمشتقات النفطية عبر تجار وسماسرة ينتشرون في مختلف المدن الواقعة تحت سيطرتهم .
وبهذه الطريقة تستنزف ميليشيا الحوثي موارد تعز كما تستغل المنافذ الحساسة على أطراف المدينة المحاصرة؛ لذا يرى مختصون بالشأن الاقتصادي بقاء الحوبان بيد قوات الحوثي أمر ينعكس سلبًا على مدينة تعز التي تعتبر أشد المناطق معاناة في اليمن .