المجهر- ملف خاص 2
عادت رويدا صالح، ذات العشرة أعوام إلى الحياة، بعد أن وقعت في شباك الموت قنصًا، ورويدًا رويدًا تستعيد هذه الطفلة حياتها اليومية في مشهد قد لا يتكرر كثيرًا؛ فمن النادر أن تعيش ضحايا قناصة الحوثيين الذين يتفننون في ارسال رصاصات قاتلة تجاه رؤوس الأطفال والمدنيين.
بداية القصة، كانت في السابع عشر من أغسطس 2020، عندما غادرت رويدا وشقيقها عمري -يكبرها بعامين- منزل الأسرة في حي الروضة، بهدف البحث عن المياه، حيث عبرا الطفلان بين منازل الحي القريب من خطوط التماس، متجاوزين بذلك الشارع المؤدي إلى جولة "سبأ"، وصولًا إلى خزانات مياه السبيل.
وبمجرد انتهاء الطفلة من تعبئة الوعاء "غالون بلاستيكي" الذي يظهر في الصورة، طلبت من أخيها المساعدة في إزاحته ونقله إلى المنزل؛ لكن القناص سبق ذلك، بقتلها بطريقة وحشية وأكثر دموية.
يومها بدت رويدا في صورة التقطها أحد ساكني الحي، تظهر الصغيرة، ملقاة على الأرض بثياب مهترئة، حافية القدمين، منكفئة على وجهها، باسطة ذراعيها فوق بركة من الدماء النازفة، وبجوار وعاء بلاستيكي، تُضارب قدميها، لربما تريد التماسك لتتمكن من إعادة الوعاء، واتمام المهمة التي كلفت بها.
اقرأ أيضا: مدنيون “يعيشون” على خط النار.. خطوط التماس: حياة مُحاصرة بالموت
يتذكر عمري صالح لـ "المجهر": "عندما سمعت صوت الرصاصة، وشاهدت رويدا تسقط خفت عليها.. قمت بسحبها من تلك المنطقة، -لأن القناص لم يتوقف عن الضرب- إلى الجانب الآخر، وشباب الحارة نقلوها إلى المستشفى".
في موقف شجاع، طفل يسحب شقيقته بحذر، بعدما تعرضت للقنص المباشر، محاولًا انقاذها من الموت، في مشهد سريالي، يجرها على أرضية الشارع من إحدى قدميها، ومع كل خطوة يخطوها الشقيق المنقذ نحو الخلف كان رأس الضحية يترك سيلًا من الدماء.. مشاهد مؤلمة، هزّت الضمائر وأبكت العيون، وقصة صارت أيقونة لمعاناة تعز، تسمى "طفلة الماء".
حياة جديدة
ساعات خمس، هي المدة التي قضتها رويدا داخل غرفة العمليات، نظرًا لأن العملية التي خضعت لها الطفلة معقدة، حد وصف الأطباء، بعدها نقلت إلى العناية المركزية، حيث افترشت سرير المستشفى برأس ملفوف برباط أبيض، ولا شيء أمام والدها سوى الانتظار وسط زحمة عدسات الكاميرا التي باشرت توثيق والتقاط المشاهد لجسد هامد، تحيطه صافرات مخيفة مصدرها الأجهزة الطبية.
وبنبرة حزن تحدث الأب: "شعرت بالتعاسة عندما أخبرني الطبيب بأن الطفلة تمر بحالة اغماء، ومن الممكن أن تستيقظ بعد أسبوعين فاقدة الوعي.. ما زلت أتذكر الجملة التي أنهى بها حديثه «لست في دول الخارج، أنت في تعز»". كلمات صادمة، تختلط بمشاعر الخوف والقلق من فقدان الصغيرة، في مدينة مكلومة، وبلد عاثر الحظ.
وبعد مرور يومين متتالين، صحت الطفلة بعينين دامعتين، تتلفت حولها ولا تجد أحدًا سوى الأجهزة برنينها المخيف، تبكي متوجعة دون القدرة على الحركة، وبالمقابل بدا الأب أكثر سعادة بعودة ابنته إلى الحياة بعدما كانت على فراش الموت، ومن تلك اللحظات دخلت رويدا عمرًا جديدًا، بحسب والدها، وبدأت أولى أيام معاناتها مع مضاعفات حادثة القنص وألم الرأس.
وفي المستشفى قضت رويدا شهرًا كاملًا تحت نظر الأطباء من أجل الرعاية الطبية، مستعيدة بذلك جزءًا من عافيتها، لتتمكن بعدها من العودة إلى ذات الشارع الرابط بين كلابة والروضة، حيث تقع غالبية مباني الحي أمام فوهة بندقية القناص، والأخير بات يعرف بالقاتل الصامت، حد تسمية الأهالي، الذين وصفوه بالمزاجي، تبعًا لأنه يختار فريسته بعناية، وعادة تكون من الأطفال.
جرائم ضد الإنسانية
لم يكن اهمال الأب، هو سبب تعرض رويدا للقنص المباشر، إنما ظروف العيش والسكن في خطوط التماس، هي من قادت الضحية إلى هناك.. يوضح والد الطفلة: "نعيش بالقرب من مناطق المواجهات، لا نستطيع النزوح، ولا البقاء بأمان.. معظم أهالي الحي غادروا منازلهم بداية الحرب، عدا أنا وأطفالي وبجوارنا خمسة منازل يسكن فيها مدنيين".
يضيف الرجل: "وقت الحصار، كنت أجمع المياه من البيوت المهجورة -الخالية من الساكنين- ونقضي أيامنا، أما بالسنوات الأخيرة يأتي مياه السبيل، ويخرج الأولاد لتعبئة المياه بدلًا عني".
وتبعًا لحديث الأب، كانت رويدا تتوسط مجموعة من الأطفال أثناء تعبئة المياه، حيث تعرضت للقنص من قبل قناصة الحوثيين الذين يتمركزون في منطقة "الحرير" مؤكدًا أن ابنته لا تزال تعاني من ألم ووجع في الرأس. كما طالب الأمم المتحدة بالضغط على الحوثيين، ومعاقبة الذين تسببوا بقنص رويدا وغيرها من أطفال المدينة المحاصرة.
وبالرغم من هول الحادثة، إلا أن مجلس الأمن الدولي لم يؤدي واجبه الإنساني والأخلاقي من منطلق الوفاء بالقوانين والتشريعات التي وضعها، ناهيك عن صمت دولي وإنساني من قبل المنظمات الدولية إزاء الانتهاكات والممارسات التي ترتكبها جماعة الحوثي بحق المدنيين في تعز، طبقًا لحديث حقوقيين.
وتعد حادثة قنص الطفلة رويدا، جريمة إعدام مقصودة لبراءة الطفولة في اليمن، بحسب منظمة سام، الأمر الذي يستدعي إحالة ملف الانتهاكات بحق الأطفال إلى محكمة الجنايات الدولية باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، وتفيد المعلومات أن معظم ضحايا القنص والقصف هم من الأطفال، الذين تتعمد ميليشيا الحوثي استهدافهم بشكل شبه يومي.
ويرى مراقبون أن عددًا كبيرًا من جرائم الحرب في اليمن سببها أن الميليشيا لم تفرق بين قواعد الاشتباك، والجريمة ضد الإنسانية، وهذا ناتج عن انعدام المساءلة القانونية، إلى جانب عدم تحرك المجتمع الدولي لمعاقبة مرتكبي الجرائم بحق الطفولة، بالإضافة لغياب المحكمة الدولية الخاصة بملاحقة مرتكبي الجرائم ضد المدنيين، ورغم ذلك فإن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.
حصار المياه
وبالعودة إلى خطوط التماس، وتتبع حياة الساكنون هناك، ستجد أن جماعة الحوثي لم تكتفِ بتدمير المنازل وقصف المباني، وقنص الأطفال وقتل النساء، بل تسعى هذه الميليشيا إلى استهداف خزانات المياه عمدًا، لزيادة معاناة المدنيين، فالحصول على القليل من المياه في مثل هذه المناطق ليس سهلًا.
ويلجأ الكثير من الناس في خطوط التماس لنقل الخزانات الخاصة بالمياه إلى خلف المباني، فيما البعض يقومون ببناء جدران رفيعة تقي هذه الحاويات من الرصاصات العشوائية.. الأمر الذي يثبت أن كل شيء في مناطق التماس بات تحت عدسة الاستهداف، والمدنيون لا يفرقون بين النجاة بأرواحهم، وحماية خزانات المياه.
والمتتبع لحياة الساكنين في الأماكن القريبة من خط النار، يدرك كيف يتدبر هؤلاء المياه، التي تكاد تنعدم في كثير من الأحيان، وطبقًا لشهادات الأهالي فإن انعدام المياه يشكل ضغطًا كبيرًا على حياتهم اليومية خصوصًا مع تأخر مواسم الأمطار، وتغيرات المناخ.
وبالرغم أن ساكني هذه المناطق يسعون إلى ادخار مياه الأمطار، وتجميعها خلال الأيام الماطرة ومواسم الصيف في خزانات مغلقة، وبعيدة عن الاستخدام اليومي، إلا أنها لا تكفي احتياجاتهم السنوية.. وهذا ما يجعل مئات المدنيين في خطوط التماس أمام معاناة لا تنتهي.