مدينة التربة تختنق.. كارثة بيئية في قلب تعز المحاصرة (تقرير خاص)

مدينة التربة تختنق.. كارثة بيئية في قلب تعز المحاصرة (تقرير خاص)

في الزوايا المنسية من محافظة تعز، ينقشع غبار الحرب ليكشف واقعًا أكثر قسوة من الرصاص، حيث تتراكم أكوام القمامة لتشكّل طبقات متداخلة من الإهمال والسياسات العاجزة، وتضع العديد من المناطق أمام كارثة بيئية وصحية حقيقية.

ففي ظل تعقيدات الحرب المستمرة منذ ما يقارب عقدًا من الزمن، أصبحت مديريات تعز الريفية مثل "الشمايتين" ومدينة التربة، مسرحًا لفصول متعددة من الأزمات، لا تقتصر على الصراع المسلح فحسب، بل تمتد لتشمل انهيارًا شبه تام في البنية التحتية، وغيابًا مريعًا للخدمات العامة.

يقع مكب النفايات أو "مقلب التربة" كما يسميه غالبية أبناء المنطقة، على مقربة من شارع 24، إذ لم يعد مجرّد مفرغ عشوائي، بل صار بؤرة للتلوث وموئلاً للأوبئة، وسط غياب شبه كلي للحلول المؤسسية، الأمر الذي يوضح كيف تحوّلت المخلفات اليومية إلى سلاح بيئي قاتل، يهدد سكان المدينة ونازحيها على حد سواء.

 

تداعيات الحصار

 

منذ بداية الإنقلاب الحوثي على الدولة، شكّل الحصار الذي تفرضه الجماعة على مدينة تعز أحد أبرز عوامل الانهيار الخدمي، لا سيما في ملف إدارة النفايات؛ خاصة مع تعنت الحوثيين ومنعهم خروج شاحنات النظافة من المدينة إلى المقلب الرئيسي، الواقع في منطقة مفرق شرعب، الخاضع لسيطرتهم.

ونتيجة لذلك، اضطرت السلطات المحلية التابعة للحكومة المعترف بها آنذاك إلى إيجاد حلول مؤقتة تمثلت في تخصيص مواقع بديلة لحرق النفايات داخل المدينة نفسها، على أمل أن يكون ذلك إجراءًا مرحليًا. لكن ما بدأ كاستجابة طارئة في لحظة عزلة خانقة، تحوّل بمرور السنوات إلى سياسة أمر واقع تكرّس التلوث في قلب التجمعات السكنية.

اللافت أن هذا الحل المؤقت صمد لأكثر من عشر سنوات تحت وطأة الحرب المستمرة، لينتج عنه تراكُم غير مسبوق للنفايات في مدينة التربة "مركز الشمايتين"، وتحول إلى بؤرة للتلوث الهوائي والمائي، ومرتع للأمراض والأوبئة.

ومع غياب أي رؤية استراتيجية لإدارة الأزمة بيئيًا وصحيًا، وتلاشي أي دور رقابي فعال، أصبحت المقالب المؤقتة هذه بمثابة "قنابل بيئية موقوتة"، تهدد اليوم صحة مئات العائلات، وتُجسد حالة الانهيار البطيء الذي يعيشه سكان محافظة تعز في تفاصيلهم اليومية.

 

مشكلة بيئية

 

وسط مناطق مأهولة بالسكان، يقع مكب النفايات، وهو ما حول الأحياء القريبة منه إلى منطقة موبوءة، فالعديد من السكان يشكون من أمراض تنفسية وأخرى جلدية وأورام وتشوهات ناتجة بحسب تقارير طبية عن التكدس العشوائي للمخلفات، وحرق النفايات الطبية الخطرة دون أدنى معايير بيئية أو صحية.

يقول الأهالي، إن مكب النفايات الواقع في منطقة التربة جنوب محافظة تعز، بات مصدر دائم للغازات السامة والروائح الكريهة التي تلاحق السكان في بيوتهم المحاصرة بأدخنة الحرق العشوائي للمخلفات مختلطة والمواد البلاستيكية، مما أدى إلى تفشي أمراض تنفسية حادة، اختناقات، وحالات ربو خاصة بين الأطفال وكبار السن، ناهيك عن تلوث التربة والمياه الجوفية.

كما يمثل هذا المكب تهديدًا يوميًا مباشرًا لحياة مئات العائلات، خصوصًا النساء والأطفال الذين يسكنون على مقربة منه، في ظروف معيشية هي أشبه بالحياة على حافة الجحيم؛ وبحسب كثيرين فإنهم لا يواجهون فقط روائح كريهة تخنق الأنفاس، بل يواجهون خطر تفشي الأوبئة نتيجة اختلاط النفايات بمياه الأمطار، وانتشار الحشرات الناقلة للأمراض وسط أحياء سكنية مكتظة، تفتقر إلى شبكات صرف صحي متماسكة أو خدمات طبية كافية.

يتحدث خالد محمد لـ«المجهر» قائلًا: "يلعب عشرات الأطفال في الشوارع المجاورة للمقلب، وهذا يعني ملامستهم التربة الملوثة واستنشاق الأدخنة السامة التي تخلفها عمليات الحرق العشوائي للنفايات، ما يضعهم في مواجهة دائمة مع أمراض تنفسية حادة مثل الربو الشعبي والتهابات الجهاز التنفسي".

ويشير في حديثه أن النساء في المنطقة وكثير من الأمهات يعتبرن الحلقة الأضعف في هذه المعادلة القاتلة، إذ يتحملن عبء رعاية أطفال مرضى، وتدبير مياه نظيفة، والغسيل في بيئة مشبعة بالجراثيم، وكل ذلك في ظل انعدام الحماية الصحية وغياب أي تدخل من السلطات المحلية.

وفي ظل استمرار تقاعس الجهات المعنية، يُخشى الرجل أن يتحول المكب إلى نقطة تفشي واسعة لأمراض خطيرة تتجاوز الكوليرا والضنك والتيفوئيد، خاصة بعد تسرب مياه الأمطار الملوثة إلى محيط المنازل.

وبينما تتسع التربة عمرانيًا بوتيرة متسارعة، تبقى أرواح مئات المواطنين رهينة سياسات إدارية عاجزة، تواصل دفن أزماتها في النفايات، بدلاً من إيجاد حلول جذرية تحفظ للناس حقهم في هواء نقي وسكن آمن.

 

نقص التمويل

 

مؤخرًا أعلن مدير مديرية الشمايتين عبد العزيز الشيباني، عن مساعي السلطة المحلية لإيجاد حلول بالتعاون مع المنظمات، لكنها اعترفت بعجزها عن التنفيذ العملي بسبب "ضعف الإمكانيات"، ويبقى السؤال الأهم لماذا لم يتم التخطيط البديل طوال السنوات الماضية رغم تفاقم الأزمة؟

إلى ذلك، يرى مراقبون أن مكب النفايات المتواجد في مدينة التربة ليس مشكلة فنية فقط، بل هو نتاج معادلة مختلّة بين غياب الإرادة السياسية، ونقص التمويل، وانعدام الكفاءة في إدارة ملف البيئة محليًا.

فيما أوضح ناشطون بأن خطورة الوضع تزداد تباعًا نظرًا لأن مدينة التربة لم تُصمَّم لتكون مركزًا لاستقبال هذا الحجم من السكان والأنشطة التجارية والمرورية، مشيرين إلى أن غياب استراتيجية بيئية واضحة، حولت المنطقة إلى نموذج مصغّر لانفجار سكاني وخدمي غير مسيطر عليه.

 

حلول عاجلة

 

مع تصاعد مناشدات المواطنين، زار الممثل الإنساني لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "الأوتشا" في تعز، السيد سانتوس، مكب النفايات في مدينة التربة، للإطلاع على حجم الكارثة البيئية الناجمة عن تكدس المخلفات في منطقة محاذية للأحياء السكنية ومخيمات النازحين.

وبحسب سلطة تعز المحلية، فإن زيارة سانتوس جاءت في إطار مساعٍ لدراسة إمكانية تنفيذ مشروع بيئي يسهم في الحد من المخاطر الصحية والبيئية المتفاقمة، وسط مخاوف خبراء في مجال البيئة من الكارثة التي قد تتسبب بوفاة العشرات من أبناء المنطقة.

يؤكد المهندس صخر حزام، مستشار منظمة اليمن لحماية البيئة، أن الوضع لا يهدد التربة وحدها، فالتكدس العشوائي للنفايات يشكّل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة والبيئة، فضلًا عن تسرّب الملوثات إلى المياه الجوفية الأمر الذي قد يُنتج أزمة صحية طويلة الأمد.

ويشدد المهندس على أن الوضع البيئي في مدينة التربة لا يحتمل التأخير، بل يتطلب تحركًا عاجلًا وفعالًا لحماية البيئة وصحة سكان مدينة التربة والنازحين القاطنين بالقرب من المقلب، مشيرًا إلى أن هذه مسؤولية إنسانية وأخلاقية تقع على عاتق الجميع.

يقترح المهندس حزام مصفوفة حلول عاجلة تتضمن نقل موقع مكب النفايات إلى مكان تنطبق عليه المعايير الدولية في اختيار أماكن المقالب لحرق المخلفات، وتطبيق مفهوم إدارة النفايات ومعالجة نفايات المسالخ قبل رميها في المقلب.

ويؤكد في حديثه بأن أهم خطوة تكمن في اختيار  موقع بعيد عن تلوث المصادر المائية، إلى جانب تفعيل دور صندوق النظافه والتحسين وتدريب العاملين في مجال نقل وإدارة المخلفات، ورفع الوعي البيئي في المجتمع المحلي.

 

معاناة متجذرة

 

هكذا يمثل مكب "نفايات التربة" نموذجًا مصغرًا لما أحدثه الحصار الحوثي من دمار بيئي ممنهج في محافظة تعز؛ فالمشكلة في منطقة التربة ليست استثناءً، بل تتكرر في مختلف مديريات المحافظة، حيث تحوّلت النفايات المتراكمة إلى معالم يومية، ومقالب القمامة إلى بؤر مفتوحة للأوبئة والاختناق البيئي.

يؤكد كثيرون أن ما تشهده التربة يعد صورة مكثفة لمعاناة ممتدة، تتوزع على طول خارطة تعز المحاصرة، ففي كل منطقة ثمة مقلب نفايات يهدد حياة المدنيين، وثمة أطفال ينشأون على رائحة التعفن والهواء الملوث، وأمّهات يواجهن صعوبات وتحديات كثيرة وسط بيئة ملوثة وظروف معيشية صعبة.

ومع غياب الدور الحكومي، تفرض النفايات حضورها كأحد أوجه الحرب غير المعلنة، حيث يتساوى أثرها المدمر مع الرصاص، وإن بدا صامتًا، إذ تعد أحد تجليات الحرب الطويلة التي استهدفت تعز بأوجه متعددة، ويتوقع خبراء بيئيون أن استمرار الوضع دون حلول جادة فإن المستقبل القريب قد يحمل المزيد من التفكك البيئي، وتصبح هذه المقالب تهديد مباشر لحياة الآلاف من أبناء محافظة تعز.