السبت 23/نوفمبر/2024
عاجلعاجل

تعز.. حصارٌ ومعاناة وغيابٌ في المفاوضات

تعز.. حصارٌ ومعاناة وغيابٌ في المفاوضات

المجهر- تقرير خاص

كان بإمكان عبدالله الحداد الوصول من منطقة الحوبان إلى مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهوري بتعز، خلال دقائق معدودة، لكن اليوم وبفعل حرب الحوثيين على المدينة، وحصار المنافذ، فقد باتت الطرق طويلة وشاقة، بل وأصبح المريض بحاجة إلى نصف يوم كي يصل إلى ذات المكان.

مساء الأحد الماضي، كان الخمسيني عبدالله يجلس أمام المركز الخاص بمرضى الفشل الكلوي، يستعد لخوض عملية غسيل الكلى، وذلك بعد أن قطع مسافة ثمان ساعات متتالية بهدف الوصول إلى مركز المدينة.

وبملامح مليئة بالإرهاق يبدو الرجل متعبًا، وتختبئ خلف تجاعيد وجهه قصة معاناة لا تنتهي، فالعيش بكلية واحدة تهديد محتمل للحياة، بينما الفشل الكلوي يعني الاقتراب السريع من الموت، خصوصًا مع استمرار الحرب والحصار وبعد المسافات بين ضفتي مدينة أجمع الجميع أنها مجروحة.

وبعيدة هي المدينة، فالدخول إليها ليس سهلًا، إنما يتطلب الإلتفاف والدوران حولها واجتياز طرق الأرياف الوعرة، وكغيره من القادمين إلى المدينة يسلك الحداد طرقًا بديلة، كطريق الأقروض، وطريق جبل حبشي، مستسلمًا لكل التحقيقات في الهوية، التي يتعرض لها المسافرون إلى تعز.

منافذ مغلقة

يقول الحداد لـ "المجهر": "قبل سنوات الحرب، كنت أدخل مدينة تعز، بشكل مستمر.. عبر جولة القصر، كانت المسافة قريبة، تأخذ ربع ساعة من الحوبان إلى وسط المدينة.. أما اليوم أسافر أكثر من 6 ساعات حتى أصل إلى مستشفى المدينة، وكذلك أثناء العودة".

أسبوعيًا، يقطع هذا الرجل الخمسيني رحلته الشاقة بدءًا من منطقة الحوبان، مرورًا بطريق الأقروض، وصولًا إلى تعز المدينة، حيث تقدر المسافة التي يقطعها الحداد في كل مرة، ذهابًا وإيابًا بأكثر من مائة كيلومتر، إذ يحتاج الحداد إلى 16 ساعة سفر من أجل الوصول إلى منطقته والعودة.

إلى جانب تعب المسافات، يشكو المريض من زيادة تكاليف التنقل، خصوصًا بعدما صارت المدينة مدينتين، والعملة عملتين، حد توصيف الرجل، الذي بات يحتاج إلى 500 ريال سعودي، مع كل دورة علاج.

يضيف الرجل: "صارت التكاليف مضاعفة، مواصلات الطريق تصل إلى 20 ألف في كل مرة، إضافة إلى متاعب السفر، وتكاليف البقاء داخل المدينة أثناء فترة العلاج".

وللمرضى والمسافرين قصص وعذابات، خاصة أنهم يقطعون مسافات طويلة، ويسلكون طرقًا وعرة تمر بوديان ومرتفعات جبلية، كطريق الأقروض، الذي بات شريانًا رئيسيًا من المدينة وإليها.

يؤكد الحداد لـ "المجهر": "الناس عائشين في جعجعة، في نكد، نتمنى أن يفتحوا جميع منافذ تعز.. بدلًا من أن المواطن يسافر خمس أو ست مرات، الآن يخرج مرة واحدة في السنة.. الطريق متعبة، ووعرة، والناس حالتهم حالة، وظروفهم تعبانة.. ناس عندهم أمراض.. المهم نقول لا حول ولا قوة، نتمنى من الله، ومن الناس العقلاء الواعيين أن ينهوا الحرب".

وحصل "المجهر" على احصائية بأعداد المرضى الذين يأتون من خارج المدينة، فالمئات من مصابي الأورام السرطانية يقطعون مسافات شاقة بهدف الوصول إلى المركز الوحيد بالمدينة الخاص بعلاج الأورام، حيث تفيد المعلومات إلى أن ما يقارب ألفي مريض، يرتادون مركز الأمل بشكل مستمر.

وبحسب مدير مركز مرضى الفشل الكلوي، فهمي الحناني فإن أكثر من 200 حالة تأتي من مناطق الحوبان، وشرعب وغيرها من المناطق المجاورة، إلى المدينة، من أجل عملية الغسيل الدورية.

معابر الموت

الطرقات الآمنة وفتح المنافذ.. الجُمَل التي سمعناها كثيرًا في سياق الحديث عن انفراجات تتعلق بحياة المدنيين في تعز؛ لكنها لا تعني شيئًا أمام ملامح مدينة أصبحت صحتها على المحك نتيجة الحصار.

ستة منافذ على أطراف مدينة تعز، أغلقتها ميليشيا الحوثي أمام أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، وهذا ما تسبب بزيادة معاناة المدنيين، وجعل الآلاف من الناس تحت الحصار لتتحول بذلك المدينة إلى سجن كبير، وتصبح تعز مدينة الموتى والمتعبين، خاصة مع تقطع الأوصال، وعراقيل الطرق، واجراءات الحصار، التي تفرضه الميليشيا من ثماني سنوات.

منفذ صالة، جولة القصر، كلابة، عصيفرة، غراب وحذران.. كلها اسماء لمنافذ إنسانية مغلقة لسنوات بالسواتر الترابية، وقد تحولت مع مرور الوقت إلى غابات موحشة، تخلو من الساكنين، كما لو أن الحياة توقفت، ووحدها الأشجار تنمو هناك، حيث الشوارع البينية المليئة بالألغام العشوائية في مناطق هجرها الساكنون، ولم يعد يتذكرها العابرون.

ويعد المنفذ الشرقي "جولة القصر" من أهم المنافذ التي سعت جماعة الحوثي إلى السيطرة عليه، وإغلاقه باعتباره يربط المدينة بالحوبان، ومحافظة عدن، وإب وصنعاء، إضافة إلى أن منطقة جولة القصر، تضم أبرز المؤسسات السيادية لتعز، بينها القصر الجمهوري، والبنك المركزي، والمؤسسة الاقتصادية، وكلية الطب، والعديد من المكاتب الحكومية، والمدارس والمستشفيات الحكومية والخاصة.

كما أغلقت هذه الجماعة المنفذ الشمالي "طريق عصيفرة- الستين" والذي يضم مفترق طرق بينها طريق الحوبان- سوفتيل، المدخل الرئيسي للمحافظة، والشارع المؤدي إلى الأربعين والروضة، وشارع الستين وعصيفرة، حيث يعتبر هذا المنفذ الطريق الدائري لشمال تعز، تبعًا لأنه يربط المدينة بالمديريات الريفية أهمها شرعب، ومخلاف، كما يؤدي إلى طريق الستين، التي تصل إلى الحوبان ومختلف المحافظات الأخرى.

ولكسر الحصار، لجأ المدنيون إلى استحداث طرق بديلة، تمر بوديان ومرتفعات جبلية كطريق الأقروض -الشريان الرئيسي من وإلى المدينة- كل ذلك في سبيل إيجاد معبر لتسهيل تنقلات الحالات الإنسانية خصوصًا مرضى السرطان ومرضى الفشل الكلوي.

وبالمقابل سعت الجماعة من خلال نقاطها الأمنية إلى تقليص الحريات عن طريق مسلسل طويل من الاعتقالات وعمليات الإخفاء القسري، لكثير من المدنيين، ومع هذا التحول توسعت فجوة الحصار، وصار السفر رحلة إلى جحيم خالص، بحسب حديث مسافرين.

عقاب جماعي

منذ أكثر من ثمانية أعوام، تتجه الأنظار نحو مدينة تعز المحاصرة، لكن جماعة الحوثيين، يرفضون رفع يد الحصار على ساكني هذه المدينة، فضلًا أنهم يتخذونها ورقة ضغط سياسية.

تذكر المعلومات أنه جرى خلال السنوات الماضية الترتيب لأكثر من عشر مبادرات، بعضها بإشراف أممي، وتنسيق بين لجنة فتح المعابر التابعة للحكومة الشرعية، وطرف جماعة الحوثي، بهدف فتح المنافذ الرئيسية، والممرات أمام مرضى المدينة، وبعض الحالات الإنسانية، لكن عادة ما تنتهي هذه المفاوضات بالفشل.

وبحسب مراقبين، فإن الحوثي يتخذ تعز ورقة ضغط سياسية، الأمر الذي يفسر فشل هذه المبادرات، إضافة إلى أن الجماعة تحاول في كل مرة، تأجيل ملف الحصار، واستخدام قضية تعز، كوسيلة للمقايضة عند المفاوضات، ناهيك أنها تسعى من خلال الحصار إلى عقاب جماعي للمدنيين داخل المدينة، وذلك بمنع دخول المواد الغذائية، والإمدادات الإغاثية.

ويرى حقوقيون أن هذه الممارسات والانتهاكات بحق ناس تعز، تعد جريمة ضد الإنسانية خصوصًا أن جماعة الحوثي لم تكتفِ بإغلاق المنافذ، والممرات البرية فحسب، إذ لا تزال تُحاصر المدنيين بالقذائف، ورصاصات القناصة، وتتسبب بقتل الكثير من الأبرياء.